فى القسم الأول من هذا المقال (الثلاثاء الماضي) حاولت تفسير المكون الجوهرى فى الممارسة السياسية للإخوان المسلمين قبل وبعد 30 يونيو بإرجاعه إلى حالة حمى مستعرة أمسكت بعقول قيادة التنظيم قوامها تصور أن لحظة «التمكين» قد حانت بعد طول انتظار، وإدارك فى الوقت نفسه انها مجرد لحظة عابرة، سرعان ما تنقضى . وتجدرالإشارة هنا إلى انه قُدر للمصريين التعامل مع الصعود الإخوانى للسلطة فى مرحلة من أكثر مراحل وضعهم القيادى سوءًا ورداءة، فقبل الثورة المصرية بأكثر قليلا من العامين كان الجناح الأكثر تخلفا وجمودا وعداءً لقيم الحرية والديمقراطية (القطبيون والسلفيون) قد نجح فى الاستيلاء التام على قيادة التنظيم وابعاد التيار الأكثر عقلانية وانفتاحا (وفى مقدمتهم نائب المرشد العام وقتها، محمد حبيب، والقائد الحالى لحزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح) عن القيادة ومواقع التأثير، وهو ما استكمل بخروج أكثر الكوادر والنشطاء المنتمين لذلك التيار من صفوف الإخوان فى الشهور القليلة التالية للثورة، الشباب الإخوانى الذى شارك فى الثورة منذ بدايتها (رغما عن ارادة القيادة) فى صفوف ائتلاف شباب الثورة. الحمى والإنكار والهذيان ليست بطبيعة الحال من بين مقومات صياغة استراتيجية سياسية من أى نوع، ولكن إذا كان ثمة بذرة استراتيجية ما فى سلوك الإخوان منذ 30 يونيو، وبالذات منذ الفض المأساوى لاعتصامى رابعة والنهضة، فتلك هى المتمثلة فى تحقيق أقصى ما يكون من الإعاقة واشاعة الفوضى والقلاقل والاضطرابات ولأطول زمن ممكن. وهم استعادة مرسى لسدة الحكم «خلال أيام» ذهب أدراج الرياح، ولكن يبقى الرهان طويل الأمد على «المظلومية»، والرهان الأقصر مدى على الابقاء على حالة مستديمة من الاضطرابات والفوضى وعدم الأمان، وساعتها فلا استقرار سياسى أو اجتماعى ولا سياحة ولا استثمار ولا «عجلة انتاج»، فضلا عن الاجهاض التام لطموحات الثورة المصرية فى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. دولة مبارك البوليسية المتحللة شكلت الحضانة النموذجية للصعود الإخواني، وأيا ما كان مستوى الإدراك الواعى لقيادة الإخوان للمحتوى الفعلى «لاستراتيجيتها»، فجلها هو الإسهام بأقصى ما يكون الإسهام فى تحقيق استعادة الدولة البوليسية المباركية فى أكثر صورها تحللا وقسوة واستبدادا، وهذا هو ما يدفع الآلاف من شباب الإخوان أرواحهم ومستقبلهم فى سبيله. علينا أن نقر مع ذلك بأن الاستراتيجية المضادة للإخوان ليست بأفضل حالا من استراتيجيتهم، مع الأسف الشديد، وذلك رغم فيض من «الخبراء الاستراتيجيين» هبطوا علينا بوفرة مدهشة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة منذ الثالث من يوليو العام الماضي. ودعنى أقُلها صريحة واضحة: استراتيجية مواجهة الإخوان (إذا كان ثمة استراتيجية) لم ولن تقود إلى استعادة استقرار من أى نوع، كما تدعي، ولكن إلى فوضى واضطرابات متواصلة لا يبدو لها من نهاية، وهو بالضبط ما ترمى اليه قيادة الإخوان. ليس فى الأمر مؤامرات وخلايا نائمة وغيرها من الخرافات التى شاعت شيوعا مروعا فى فضائنا العقلى والإعلامى خلال الشهور الماضية، ولكنها الحمى مرة أخري. يكفينا يوم واحد من مشاهدة البرامج الحوارية على التليفزيون، أو مطالعة أعمدة الرأى فى الصحافة المصرية لندرك اننا إزاء حمى مستعرة تصيب العقل وتذهب بأى محاولة للتفكير العقلانى ولا نقول الاستراتيجي، وأولى قواعده ربط الأفعال بالنتائج المتوقعة. دعنا نضرب مثلا بسيطا: لست «خبيرا استراتيجيا» ولكن أظن أن من بديهيات المواجهة مع أى من كان، سياسية أو عسكرية، ألا تضع خصمك وظهره للحائط، أن تمنحه فرصة للتراجع، للانسحاب أو حتى للاستسلام، ولكن أن تدفع به إلى وضع يعدو فيه «ميتا، ميتا»، فلا مناص من القتال حتى النهاية. إذا كان ثمة استراتيجية فى المواجهة مع الإخوان فهى استراتيجية تصفية شاملة، وهذا هو فى الحقيقة ما يصرح به البعض ليل نهار. ولكن هل نحن مستعدون فعلا لتصفية تشمل مئات من الآلاف من أبناء هذا الوطن، منهم الجيران وزملاء العمل والدراسة والأقارب والأصدقاء؟ وما هى نقطة النهاية لمثل هذه الاستراتيجية: أهى معسكرات اعتقال، اعدامات بالجملة، أفران غاز (كما ساءنى الحظ أن اسمع سيدة مجتمع تقترح)؟ وهل نحن مستعدون لدفع ضريبة هذا كله فى صورة مجتمع ودولة قوامهما القسوة والوحشية، فضلا عن التطويح النهائى بأى مظهر لدولة قانون؟ بيننا مع الأسف من هم مستعدون لدفع الضريبة كاملة، بل وراغبون فيها، طامحون اليها، بفعل الحمى أو بفعل النهم المحموم للسطوة والثروة، أو لمجرد السفر الامن للفيلا الصيفية فى الساحل الشمالي. ولكن حتى فى هذا السبيل فنحن إزاء حالة تجمع بين تحجر القلب وغياب العقل. فاستراتيجية التصفية الكاملة للإخوان المسلمين (إذا صح أن نطلق عليها استراتيجية) لن يكتب لها النجاح، حتى لو قبلنا بدفع ضريبتها المروعة. الهدف الأساسى عند دعاة استراتيجية التصفية الشاملة ليس فى الحقيقة هو استعادة الاستقرار، وانما استعادة المباركية، وضريبته، فضلا عن كل ما سبق، هى العكس بالضبط مما يدعونه، أى فوضى مستمرة. وللحديث بقية فى المقال القادم بإذن الله. لمزيد من مقالات هانى شكرالله