يعانى الصعيد من ثلاثية الإهمال والتهميش والفقر. وجاءت المواجهات الدمويةالتي وقعت بين بنى هلال والدابودية في محافظة أسوان، والتي راح ضحيتها أكثر من 25 قتيلاً وعشرات المصابين، لتذكر بالواقع الأليم الذى يعيشه الصعيد، ولتدق جرس الإنذار من خطورة مايمكن أن يحدث في المستقبل إذا لم تلتفت الدولة بجدية إلى الصعيد، وتعالج المشكلات الحادة والمتزامنة التي باتت تثقل كاهل أبنائه، وتجعلهم يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وبغض النظر عن حقيقة الظروف والملابسات التي أحاطت بكارثة أسوان، يطرح هذا المقال جملة من الحقائق والمؤشرات عن الواقع المأساوي في الصعيد، وهى تمثل الإطار العام الذى يمكن قراءة الأحداث في ضوئه. وتتمثل نقطة البداية في تأكيد واقع الإهمال التاريخي الذى تعرض له الصعيد من قبل النظم والحكومات المتعاقبة. ففي أعقاب ثورة يوليو 1952، امتدت بعض مظاهر التغيير الاقتصادي والاجتماعي التي أحدثتها الثورة إلى الصعيد. ولكن مع بداية التحول إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، بدأت تتصاعد مظاهر إهمال الصعيد لدرجة أنه بات منسياً ضمن سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها الدولة خلال عهدي السادات ومبارك، وهى سياسات مشوهة أدت في مجملها إلى استشراء الفساد، وتفاقم حدة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، وانتشار الفقر والتطرف والعنف على مستوى الوطن كله، ولكن كان الصعيد هو الأكثر معاناة من هذه المشكلات. وفى هذا السياق، فقد غلب الطابع الشكلي والموسمي على اهتمام الحكومات المتعاقبة بالصعيد، حيث يكثر الحديث عن تنمية الصعيد خلال الاستحقاقات الانتخابية. ومع تصاعد دور التنظيمات الإسلامية الراديكالية في الصعيد خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بدأت الدولة تلتفت إلى الصعيد، ولكن للأسف الشديد كان ذلك من منظور أمنى وليس من منظور تنموي. وبسبب الإهمال التاريخي، أصبحت محافظات الصعيد هي الأكثر معاناة من الفقر والبطالة والارتفاع المتواصل في الأسعار، ناهيك عن التدهور الحاد في المرافق والخدمات العامة من تعليم وصحة وإسكان ومواصلات وصرف صحى ومياه نقية وغير ذلك. ومن يقوم بجولة في الصعيد «الجواني» سوف يشاهد المئات من القرى والنجوع والأحياء العشوائية المحرومة من أبسط متطلبات الحياة، التي تحفظ للمواطن آدميته وكرامته. ونظراً لتدنى مستوى الخدمات في الصعيد، والمركزية الإدارية الشديدة يضطر كثير من الصعايدة للسفر إلى القاهرة لقضاء مصالحهم. ويمثل ذلك معاناة كبيرة بالنسبة لهم بسبب الحالة المزرية لقطارات الدرجة الثالثة التي يستخدمها غالبية أهل الصعيد، وكذلك الوضع المتردي للطريقين الزراعي والصحراوي اللذين يربطان بين القاهرةوأسوان، حيث يفتقران إلى أدنى المواصفات المعروفة للطرق السريعة، ناهيك عن أن أسعار القطارات المكيفة هي فوق متناول غالبية الصعايدة. وربما لايعرف كثيرون من غير أبناء الصعيد أن الدولة تشترى طن قصب السكر من المزارعين وبخاصة في محافظتي قناوأسوان، حيث يُعد القصب المحصول الرئيسي، بمبلغ 360 جنيها مصريا، أي مايعادل قيمة أربعة كيلو لحمة. ونظراً لارتفاع تكلفة انتاج القصب بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الأسمدة والعمالة والنقل، فإن كثيراً من الفلاحين يضطرون للاقتراض من بنك التنمية والائتمان الزراعي، ويصبحون رهينة للبنك. فهل هناك ظلم لفلاحي الصعيد أكثر من ذلك! ونظراً لأن الصعيد بات يمثل حالة نموذجية لفقر التنمية وتنمية الفقر، فقد أصبح طارداً لأهله. ويتجلى ذلك في زيادة نزوح الصعايدة نحو العاصمة وغيرها من المدن الكبرى بحثاً عن فرصة عمل ولقمة عيش. وللأمانة فإن صور بعض أهالي الصعيد وهم يجلسون على الكباري والأرصفة بزيهم التقليدي في بعض الشوارع الرئيسية في القاهرة والجيزة في انتظار فرصة عمل باليومية هو صور صادمة بكل المقاييس. ولم تقتصر معاناة الصعيد على التهميش الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل يعانى أيضاً من التهميش السياسي كذلك، حيث أن دور الأحزاب السياسية ضعيف أو منعدم في محافظات الصعيد، ولا تلتفت بعض الأحزاب، بما في ذلك الحزب الوطني الديمقراطي السابق،إلى الصعيد إلا في مواسم الانتخابات. وبسبب ضعف هذه الأحزاب وهزال برامجها فإنها راحت تعتمد على الانتماءات والتوازنات القبلية والعائلية في اختيار المرشحين وحشد التأييد، الأمر الذى أسهم في تقوية هذه الانتماءات،بل وتسييسها في كثير من الأحيان، وهو أمر له مخاطره وتداعياته. ومن مظاهر التهميش السياسي للصعيد أيضاً تلك القاعدة التي استقر العمل عليها منذ عقود بشأن تعيين المحافظين في محافظات الصعيد،فهم في الأغلب الأعم يأتون من خارج هذه المحافظات، ويكون تعيينهم بمثابة مكافأة نهاية خدمتهم في الجيش أو الشرطة أو سلك القضاء. وغالباً لا يكون لدى الكثيرين منهم أية معرفة حقيقية بثقافة وتقاليد وعادات أهل الصعيد، أو أية خبرة حقيقية بالعمل المحلى، الأمر الذى يؤثر سلباً على أدائهم ودورهم في حل المشكلات التى تعانى منها المحافظات المعنية. كما يعانى الصعيد من القصور الأمني وانتشار السلاح.وعلى الرغم من أن وجود السلاح غير المرخص ليس بالأمر الجديد في الصعيد، فإن الدولة لم تتعامل قط بجدية مع هذا الملف، ليس في الصعيد فقط، ولكن في سيناء أيضاً، بل وفى عموم القطرالمصري. وقد تزايد انتشار السلاح في الصعيد وغيره في أعقاب ثورة 25 يناير بسبب كثرة عمليات تهريب الأسلحة نتيجة تردى الأوضاع الأمنية في سيناء، وتدهور الأوضاع في السودان، وانهيار مؤسسات الدولة في ليبيا، الأمر الذى جعلها تشكل مصدراً رئيسياً لتهريب أنواع مختلفة من الأسلحة إلى مصر. بالإضافة إلى القصور الأمني،فإن العدالة البطيئة،وغياب أو ضعف دور الدولة بصفة عامة يغذيان نزعة اقتناء السلاح لدى الصعايدة، مما يزيد من مخاطر تحول خلافات صغيرة إلى مواجهات دموية. كما أن هذه الأوضاع وغيرها كرست ذ وتكرس- الانتماءات الأولية، القبلية والعشائرية والعائلية، حيث باتت تمثل الأمان والحماية بالنسبة للشخص الذى لا يشعر بوجود الدولة. وهو ما تجلى بوضوح شديد في أحداث أسوان، حيث ظهرت الدولة وكأنها تمارس دور الوسط، وبدت الترتيبات العرفية والقبلية أقوى من سلطة القانون. إن الصعيد ليس بلا إمكانات تنموية، فهناك الكثير منها، ولكن سوء التخطيط وهدر الموارد والفساد هو المسئول عن استمرار مشكلات التخلف في مصر عموماً، والصعيد على وجه الخصوص. فهناك إمكانات سياحية هائلة في الأقصروأسوان، لكن لاتوجد صناعة سياحة حقيقية في مصر، وهناك بحيرة ناصر وإمكاناتها السمكية الكبيرة، ولكن لايوجد أي فكر مبدع بشأن كيفية تعظيم الاستفادة من ثروات البحيرة وخيراتها، وهناك القوة العاملة في مجال الزراعة، والتي يمكن استثمارها بشكل جيد في أي مشاريع زراعية داخل مصر، أو مشاريع تعاون في مجال الزراعة مع دول أخرى، وهناك مناجم الفوسفات وغيرها. فى ضوء كل ماسبق، فإنه ليس هناك من سبيل لمعالجة مشكلات الصعيد إلا في إطار وطني،ومن خلال سياسات وبرامج جادة غايتها تحقيق التنمية المتوازنة بين مختلف مناطق الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات والدخول والمرافق والخدمات، وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة وسيادة القانون، مما يعنى إحكام السيطرة على سوق السلاح، وجمع الأسلحة غير المرخصة في الصعيد وغيره، فضلاً عن تعزيز اللامركزية، وإعلاء قيم المواطنة والتسامح والمشاركة السياسية والمجتمعية عبر تنشيط السياسية على المستوى المحلى، وتفعيل أدوار الأحزاب وغيرها من منظمات المجتمع المدني في محافظات الصعيد. كما أنه من المهم أن تقوم الجامعات الإقليمية في محافظات الصعيد بدور أكبر في دارسة تحليل المشكلات التي يعانى منها الصعيد، وبلورة مقترحات وحلول واقعية لها، بحيث تفيد في رسم سياسات وخطط فعالة لمواجهتها. لمزيد من مقالات د. حسنين توفيق إبراهيم