يمتلئ موقع "يو تيوب" حاليا بأفلام فيديو تصور حالة الفقر المدقع التي يعاني منها أهلنا في الصعيد، لأناس لا يحسنون قراءة الفاتحة، ولا يجدون قوت يومهم، ولا مياه شرب نظيفة، ولا دورات مياه صحية، في بُيُوت بلا سقوف، وأوضاع معيشية غير آدمية. هذا هو الصعيد الذي صنع تاريخ مصر قديما، عندما قام الملك مينا (من سوهاج) بتوحيد القطرين عام 3200 قبل الميلاد، وصنعه حديثا عندما تصدى للفرنسيين، فلم يستطيعوا دخوله خلال احتلالهم لمصر، وبمجرد هزيمتهم جيش المماليك فى موقعة إمبابة دخلوا القاهرةبلا مقاومة، وتوغلوا حتى بنى سويف، وهناك واجهوا مقاومة عنيفة من الأهالى، طيلة عشرة أشهر، حتى صالحالفرنسيون القائد المملوكي مراد بك على أن يظل حاكم المنطقة مقابل أن يدفع لهم ضريبة، فاقتصر بهذا الاحتلال الفرنسى على شمال مصر فقط. الصعيد الذي شهد تواجد النسبة الغالبة من أقباط مصر وأديرتها الأثرية مترامية المساحات، ومقابر الصحابة الذين استوطنوه، هم وقبائل عربية كبيرة مثل العسيرات، والأشراف، والعرب، والحميدات.. إلخ. الصعيد الذي يمتد بطول مصر من مدينة الجيزة في الشمال إلى أسوان في الجنوب، لأكثر من ألف كيلومتر، وتحتوي إحدى مدنه (الأقصر) على ثلث آثار العالم، ويتميز بأراضيه الزراعية الخصبة، ويحتوي باطنه على العديد من المعادن، كالذهب والحديد والنحاس والفوسفات والمنجنيز والرخام والجرانيت وغيرها من المقومات الاقتصادية. الصعيد الذي يمثل صمام أمان لمصر ضد العطش من خلال احتفاظه بمياه النيل في خزان أسوان، ويزود محافظاتها بالكهرباء عبر محطة كهرباء السد العالي، كما يوفر لأهلها الغذاء من أراضيه. الصعيد الذي استعصى على فلول الحزب الوطني المنحل؛ في انتخابات مجلسي الشعب والشورى الأخيرتين، فأثبت أنهم نمور من ورق، عندما هددوا وتوعدوا وأرغوا وأزبدوا، فمرت الانتخابات بسلام، وأسقط كبيرهم (عبدالرحيم الغول) في مسقط رأسه بنجع حمادي، ليصبح الصعيد خالصا للثورة، مخلصا لأبنائها الشرفاء. الصعيد صبر على تجاهل الحكومات المتعاقبة له، وعلى حرمانه دوما منمشروعات التنمية الكبري، ومن تهميش أهله ماديا ومعنويا، بل والسخرية منهم في الأعمال الدرامية، ناهيك عن الفساد الذي حدا بالنظام البائد إلى منحأحد رجال الأعمالحق بناء منتجع سياحي في البر الغربي لنهر لنيل بمدينة أسوان، وهي منطقة تتميز بأنها محميةطبيعية، لولا قيام الثورة، وانتزاع هذه الأرض منه، ووقف انتفاعه منها. هذا الصعيد يعاني اليوم من الفقر الشديد دونا عن بقية محافظات مصر، وهو فقر ليس مسئولية أهله، وإنما مسئولية السياسات المتخلفة للحكومات المتعاقبة. فأغلب الفقراء بمصر يعيشون في محافظات الوجه القبلي، كما ذكر تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية لعام 2007، إذ يقول إن نسبة الفقراء فيها تبلغ نحو 35.2% من إجمالي عدد السكان، وإن أفقر محافظات مصر هي أسيوط إذ يبلغ عدد الفقراء فيها 58.1% من عدد السكان، منهم 24.8% لا يجدون قوت يومهم، فيما تحتل محافظة بني سويف المركز الثاني بعدد فقراء يبلغ 53.2% ، منهم 20.2% لا يجدون قوت يومهم، بينما تأتي محافظة سوهاج في المركز الثالث بنسبة فقراء 45.5%، منهم 17.2% لايجدون قوت يومهم! والآن، وبعد أكثر من عام على الثورة، تأتي الأنباء بأن صبر أهل الصعيد بدأ في النفاد ، من جراء اصطفاف طوابير الفقراء ، والمعدمين ، والمرضى ، والعاطلين ، في طوابير الخبز والدواء وأسطوانات الغاز ،في بيئة لم تتطهر بعد من عادة الثأر المرذولة ، مما يحرمها من أعز ما تملك ، وهو ثروتها البشرية خاصة المتعلمة. وهكذا أخذنا نسمع عن قطع طرق القطارات، واقتحام مبنى المحافظة (في كل من قناوأسوان) بل وقطع مجرى نهر النيل نفسه ، للمطالبة بالحقوق المشروعة للأهالي ، بما يعني أن الصعيد يعيش على فوهة بركان ، غضبا من إهماله المستمر ، وأكل حقوقه في عوائد التنمية وسياساتها ، حتى بعد الثورة ، مع أن بإمكانه أن يصنع تاريخ مصر ثانية ، بشئ من الاهتمام به، والحُنو بأهله . وهذه مهمة تقع على عاتق الحكومة ، والقوى السياسية ، والمرشحين المحتملين للرئاسة كافة ، وذلك بأن يتقدم كل منهم بأفكار خلاقة لتنمية الصعيد، بدلا من الاستسلام للنظرة الشائهة عنه بأنه موطن "خط الصعيد"، مثل الحمبولي، وحوادث الفتنة الطائفية والثارات القبلية. وفي هذا الصدد تمثل شعبية الجماعات الإسلامية في الصعيد مؤشر تفاؤل لزيادة الوعي التنموي ، وتخطي حواجزالفقر الذي هو كبيرة الكبائر ، وجريمة الجرائم ، وكذلك القضاء على تجارتي السلاح والمخدرات ، اللتين انتشرتا بمحافظاته بكثرة ، نتيجة الانفلات الأمني بعد الثورة. وبمناسبة مرور عشر سنوات على كارثة احتراق قطار الصعيد (القاهرة-أسوان) الذي وقع في 20 فبراير عام 2002، وأسفر عن احتراق ما لا يقل عن 1500 مواطن، وبرأت المحكمة مسئولي السكك الحديدية فيه؛ قائلة إن المتهم الحقيقي ما زال طليقا.. يجب على مجلس الشعب فتح التحقيق في تلك الكارثة، وتشكيل لجنة لتقصي حقائق، مع تحميل الرئيس المخلوع حسني مبارك المسئولية السياسية عنها. وفي الوقت نفسه، لابد من الاهتمام بالطرق الموصلة إلى الصعيد من سائر أنحاء مصر، لأنها تعاني حاليا من الإهمال الشديد، حتى يُخشى تكرار تلك المأساة مرة أخرى ، فالقطارات وخطوط السكك الحديد تفتقر إلى الصيانة وإعادة التأهيل ، وطريقا الصعيد (الزراعي والصحرواي) يعانيان من سوء الإدارة ، وانعدام الإنارة والخدمات المرورية.. إلخ، مما يؤدى إلى وقوع حوادث مريعة كل يوم. والأمر هكذا؛ آن الأوان لرفع الظلم عن الصعيد ، وأهله الذين تغربوا في أقطار الأرض ، بحثا عن لقمة عيش شريفة ، في عهد النظام البائد ، وأن يكون هناك مشروع قومي ، يتقدم جميع المشاريع، من أجل تزيد محافظاته بالبنية الأساسية، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والطرق، والمدارس والمستشفيات، وبرامج التشغيل، واستثمار طاقة الشباب، وحل مشكلات المزارعين، مع تنشيط السياحة، وإنشاء المصانع .. إلخ. إن الصعيد يمثل مستقبل مصر، وجنتها الموعودة الصادقة ، وبداية نهضتها الشاملة ؛ لذلك يجب وقف سياسات التهميش والتجاهل والنسيان الحكومي التي طالما عانى منها الصعايدة ، كما يجب مد يد العون إليهم من الدولة والسياسيين والمفكرين والإعلاميين والمستثمرين ورجال الأعمال ، خاصة أن الصعيد ينطوي على إمكانات اقتصادية هائلة : زراعية وتعدينية وصناعية وبشرية. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد