يعد 2014 عام الانتخابات الكبرى فى القارة الأوروبية، حيث ستجرى الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبى البالغ عدد أعضائه 766 عضوا ومقره بروكسل فى الفترة مابين ال 22 وال 25 من مايو المقبل، وهو ما يتزامن أيضا مع إجراء كل الدول الأعضاء ال 28 فى الاتحاد الأوروبى كل منها على حدة لانتخاباته المحلية التى يقوم من خلالها باختيار أعضاء مجالسه النيابية أوالتشريعية. وأما النقطة الأكثر أهمية فى هذا الصدد فهى تلك التى تتمثل فى تطلعات أحزاب اليمين الشعبوى بالقارة العجوز إلى تحقيق نتائج مؤثرة خلال تلك الانتخابات تمكنهم من تحقيق أهداف تدور ما بين تفكيك الاتحاد الأوروبى واستعادة كل واحدة من دوله لسيادتها وإلغاء "اليورو"وإعادة تداول العملات القديمة ووقف الهجرة ومعاداة المسلمين فى المجتمعات الغربية. ولا شك أن هذا الأمر بات يمثل هاجسا وتهديدا كبيرا لأبرز الساسة الأوروبيين وعلى رأسهم مانويل باروسورئيس المفوضية الأوروبية، ومارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي، وماتيو رينزى رئيس الوزراء الإيطالى المنتمى للتيار اليساري، خاصة عقب مبالغة وسائل الإعلام العالمية بشأن مخاطر صعود اليمين الشعبوي خلال تلك الانتخابات لاسيما عقب تحقيق اليمين المتطرف انتصارات مؤثرة مؤخرا تمثلت مثلا لاحصرا فى فوز حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسى بقيادة ماريان لوبان في11 بلدة وإحدى الضواحى الكبيرة بمرسيليا على الحزب الاشتراكى الحاكم خلال انتخابات البلدية مما أضطر الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند لحل الحكومة وتشكيل مجلس وزراء جديد برئاسة مانويل فالس. وفى الواقع تكتسب الأحزاب اليمينية اليوم دعماً شعبياً متزايداً فى مختلف أنحاء أوروبا وأوساطها، حيث تحاول تلك الأحزاب التى يترأسها سياسيون يتحلون بشخصية قوية، أمثال السياسى الهولندى جيرت فيلدرز ، استغلال الأزمات الحالية للقارة الأوروبية كأزمة الدين والشعور بالخوف من المهاجرين المسلمين والاستياء من المؤسسات السياسية للحكومات الحالية وأدائها المتردى وغيرها من الأفكار الأخرى التى يروجون لها، وذلك لإرغام الأحزاب المعتدلة على تبنى منحى يميني. وفى المقابل، فإن كاس ماديل، الأستاذ المساعد بقسم الشئون الدولية بجامعة جورجيا ومؤلف كتاب "الأحزاب اليمينية الشعبوية الراديكالية فى أوروبا"، والذى تم طباعته بجامعة كامبريدج البريطانية ، له وجهة نظر مختلفة، حيث يرى أن التخويف من خطر صعود اليمنيين خلال الانتخابات الكبرى المقبلة لأوروبا لا يعدو كونه ضربا من المبالغة. وبأسلوب علمى رصين، يبنى ماديل وجهة نظره على أساس أنه على الرغم من تصريحات الساسة ومقالات رجال الإعلام البارزين بشأن التهديدات التى يمثلها صعود نجم اليمين للديمقراطية الأوروبية والتى تكمن 3 نقاط رئيسية منها فى اكتساب أقصى اليمين مؤخرا لدعم قوى بسبب الأزمة الاقتصادية، والتوقعات الخاصة بتحقيق عناصرهم المناهضة للاتحاد الأوروبى فوزا كبيرا فى الانتخابات الأوروبية المقبلة، والتحذير من تعرض أوروبا لإغلاق مالى جزئى شبيه بالذى تعرضت له الولاياتالمتحدة فى أكتوبر الماضي، فإنه من الصعب اختبار مدى مصداقية هذه التصريحات وتلك المقالات وإنزالها على الواقع وبناء نتائج قطعية عليها ووفقا لأسلوب علمى صحيح. وأضاف ماديل أنه حتى وإن كان فرضية صعودهم فى الانتخابات المقبلة مبنية على توقعات خاصة بنتائج الانتخابات التى جرت مسبقا وحتى 10 أشهر ماضية فى بعض دول أوروبا فإن ثمة مستجدات كبيرة لا تزال تطرأ على الساحة يمكن أن تغير تلك التوقعات والنتائج جذريا ولاسيما فى المرحلة الحالية. وتعود فكرة صعود اليمين إلى حقبة جمهورية فايمر الألمانية (1918-1933) وصعود حزب أدولف هتلر "العمال الاشتراكى القومي" بعد يوم الثلاثاء الأسود فى 29 أكتوبر 1929 الذى شهد بداية فترة الكساد العظيم، ما أدى إلى صعود اليمنيين وتحقيقهم لنتائج جيدة فى انتخابات عديدة، فإن الوضع الآن بات مختلفا تماما عما كان عليه فى الماضي، بدليل أن مقارنة النتائج التى حققتها أحزاب أقصى اليمين قبل وخلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة التى بدأت عام 2008. كما يشير الواقع إلى ثمة خسائر وأرباح انتخابية متقاربة لليمينيين خلال الفترتين. وفى السياق ذاته، يتحدث ماديل هذا المرة بلغة الأرقام فيقول أنه من بين 19 دولة من دول الاتحاد الأوروبى ال 28 حققت أحزاب أقصى اليمين فوزا بمعدل 1٪ فقط من مجمل نتائج التصويت فى كافة الانتخابات القومية أو المحلية التى جرت فى الفترة ما بين 2005 و2013، وأنها لم تحقق ومنذ بداية الأزمة الاقتصادية إلا فوزا انتخابيا وبنفس هذا المعدل فى 10 دول أوروبية فقط. ولذلك فإن الرهان على صعود عناصر هذا التيار خلال الانتخابات الكبرى لأوروبا رهان على جواد خاسر، وينطبق عليها المثل القائل "أسمع ضجيجا ولا أرى طحينا". وفيما يتعلق بمزاعم البعض بأن اتفاق اليمينيين ماريان لوبان الفرنسية وجيرت فيلدرز الهولندى فى منتصف نوفمبر من العام الماضى على تشكيل تحالف قبيل الانتخابات الكبرى، يمكن أن يعطى زخما للحركات المناهضة للاتحاد فى القارة الأوروبية ويعزز قبضة نواب اليمين المتطرف فى البرلمان الأوروبى فإنها مجرد أمان يحول الواقع دون تحققها. وبحساب الأرقام، فأنه لتشكيل كتلة فى البرلمان الأوروبى لابد من وجود 25 نائبا منتخبا من أصل مجموع النواب الأوروبيين البالغ عدهم 766، على أن تضم المجموعة أعضاء من ربع دول الاتحاد الأوروبى على الأقل، ولذا فإن الحزبين سيحتاجان إلى مساندة أحزاب من خمس دول أخرى على الأقل. و فى النهاية، وكما كانت الأزمات الاقتصادية سببا رئيسيا وراء صعود هذا اليمين المتطرف فى الماضي، فإنها ستكون سببا أيضا وراء سقوط أسطورته فى الحاضر، حيث يتضح أن قيم هذا اليمين المتطرف المبنية وبامتياز على عقيدة القائد أو الحزب لم تعد تتلاءم مع واقع المجتمعات الأوروبية التى تتسم بالتباين والتعددية وربما الانقسام أحيانا، وهذا ما ستكشف عنه نتائج الانتخابات خلال مايو المقبل.