على امتداد الولاياتالمتحدة، يحتفل الأمريكيون بشكل أو آخر بذكرى مرور 450 عاماً على ميلاد شكسبير العظيم، الذى ترك بصمته على روح الأمريكيين شباباً كانوا أم كهولاً، الذين يكنون إعجاباً وانبهاراً خاصاً تجاه فلسفته، وأعماله، وشخصياته. فضلاً عن أن عبارات شكسبير البليغة لم تقتصر فى تأثيرها على عشاق القراءة فقط، بل تظهر بوضوح فى خطب وقفشات السياسيين والفنانين والمعلقين ممن يرون فى أعمال شكسبير تفسيراً وتحليلاً لسلوك البشر وعقدهم النفسية والاجتماعية. فى هذا الإطار الاحتفالي، صدر مؤخرا كتاب شكسبير فى أمريكا للأكاديمى والخبير الشكسبيرى جيمس شابيرو من جامعة كولومبيا. يجمع الكتاب بين دفتيه تفاصيل علاقة عشق شكسبير العميقة التى ولدت ونمت وتشعبت فى العالم الجديد عبر القرون وفى كافة ملامح الحياة الأمريكية سواء كانت على خشبة المسرح أو على شاشة السينما أو فى مدرج الجامعة أو لدى أهل القرار فى العاصمة الأمريكية. يذكر فى هذا الصدد أنه قبل قرنين من الزمان كان ربع عدد المسرحيات المعروضة على امتداد مدن الساحل الشرقى لأمريكا من أعمال شكسبير. كما شاهد أهل فيلادلفيا، على سبيل المثال، وهم من عشاق المسرح ما بين عامى 1800 و1835 نحو 21 مسرحية لشكسبير. مؤخراً، وفى خلال الأشهر الستة الماضية، احتضنت مدينة نيويورك وحدها ثمانى مسرحيات لشكسبير فى برودواى وخارجها. من جهة أخرى، لم يكن غريباً أن يتحدث مؤخراً مخرج مسرحى يدعى توم برويت عن عشق الأمريكيين الخاص لشكسبير، مشيراً إلى أن الناس مازال يساورهم القلق والحيرة تجاه ما تعنيه السلطة، وكيفية التعامل معها، أو الاحتفاظ بها، ولذا فإن ما يجده المشاهد أو القارئ لمسرحيات شكسبير هو هذا الصدام والصراع فى مواجهة مغريات السلطة ومصائبها معا. أما عبر التليفزيون، تجلى التأثير الشكسبيرى مؤخراً فى متابعة الأمريكيين للمسلسل الدرامى السياسى بيت من الأوراق (هاوس أوف كاردز)، الذى تدور أحداثه فى العاصمة الأمريكية وتعكس صراع القوى فيها، مع الاستعانة بشخصيات ريتشارد الثالث والليدى ماكبث وأوتيللو بشكل أو آخر. يصعب أيضاً الحديث عن شكسبير فى العاصمة الأمريكية دون ذكر مكتبة فولجر المتخصصة فى حفظ تراث الكاتب الإنجليزي، والتى تقع على بعد خطوات من مقر الكونجرس الأمريكى (كابيتول). تم افتتاح المكتبة المتحف فى 23 أبريل عام 1932، الذى تزامن مع مرور 368 عاماً على ميلاد شكسبير. وتشهد المكتبة سنوياً فى اليوم نفسه، احتفالاً خاصاً بعيد ميلاد شكسبير بقراءات من أعماله يقدمها مبدعون مشهورون وعشاق مغمورون للمسرح وللكلمة المكتوبة. وينفرد المتحف المكتبة باحتوائه على تراث نادر لا يملكه الآخرون مثل نسخة أصلية من الطبعة الأولى التى صدرت عام 1632، وتضم 36 عملاً من أعمال شكسبير المسرحية. وحسب ما تقوله جارلاند سكوت رئيسة العلاقات الخارجية بمكتبة فولجر إن مجموع النسخ المطبوعة من الكتاب لا تتجاوز 750 نسخة، لم يتبق منها سوى 250 نسخة فقط، تقتنى فولجر وحدها 82 نسخة، وبالتالى هى الأولى اقتناءً لها فى العالم. يذكر فى هذا الصدد، احتلال إحدى الجامعات اليابانية للمركز الثانى فى اقتناء نسخ من الطبعة الأولى لأعمال شكسبير بعدد لا يزيد عن 12 نسخة. ولا تضم فولجر نسخاً تاريخية فحسب، بل تضم قائمة مقتنياتها كل ما له صلة بالمسرح الشكسبيرى من صور وإكسسوارات وملابس على مدى التاريخ، فضلاً عن قاعة مسرح وعروض تماثل ما كان يعايشه شكسبير فى زمانه. وحسب كتاب صدر مؤخرا بعنوان عملية جمع شكسبير: حكاية هنرى واميلى فولجر، أن الثرى الأمريكى وزوجته كانا من عشاق شكسبير واقتناء كل ما له صلة به وبأعماله، وانفقا أموالا طائلة لجمع تراثه، وإقامة المبنى الحالي. ونظراً لأنهما لم يرزقا بأبناء، فقد قاما بتسمية ووصف نسخ مسرحيات شكسبير بالأبناء. وقد جاء اختيار مكان مبنى المكتبة فى واشنطن بعد رحلة بحث وتقصى طويلة من جانبهما لزيارة المدن المقترحة، ومنها مكان مولد شكسبير فى ستراتفورد آبون آفون بانجلترا. ومن عجائب القدر، وفاة هنرى فولجر قبل اكتمال البناء وافتتاحه. ولا يقتصر دور المكتبة المتحف على هدف الحفاظ على التراث الشكسبيري، بل يتيح برامج تعليمية مخصصة للدارسين والباحثين يمكن التواصل معها عبر موقع المكتبة الإلكترونى الذى أشهر فى جعل شكسبير حاضراً ومعاصراً وعابراً للزمن وصديقاً للأجيال فى علاقة لا تنفصل ولا تنتهي.