فى البداية يمكن القول أن الساحة التركية الآن متخمة بجملة من المشاهد المتناقضة، التى لم تعتاد عليها البلاد منذ فترة طويلة، وتحديدا من نهاية اربعينيات القرن الماضى آخر عهد البلاد مع التزوير الفاضح للانتخابات، ولعل فى مقدمتها، الجدل الصاخب حول التلاعب فى نتائج إستحقاقات المحليات والتى جرت فى الثلاثين من مارس الماضى، وهو ما ساهم فى الاساءة إلى سمعة البلاد بالخارج. فصحيفة زمان الموالية للداعية فتح الله جولين، الذى صار العدو اللدود لأردوغان بعد أن كان الصديق الصدوق طوال 12 عاما كاملة وربما أكثر، لا يمر يوم إلا وتفرد صفحاتها لتقارير تكشف ما حدث من تدخل حكومى بتغيير إرادة المواطنين بصورة فاجأت الجميع. ورغم كل هذا تخرج صحيقة ميلليت بإستطلاع للرأى بدا للوهلة الأولى مثيرا وغريبا لتناقض مفرداته مع ما يحدث فى الواقع، إذ أشار إلى أن 98.5% ممن أستطلعت آراءهم أكدوا دعمهم لترشيح أردوغان لمنصب رئيس الجمهورية غير أن الاستطلاع نفسه أشار إلى أنه فى حال توجه تركيا للانتخابات البرلمانية العامة الآن فان حزب العدالة والتنمية الحاكم سيحصل على نسبة 48% يليه الشعب الجمهورى 26.5% ثم الحركة القومية 14.1% وأخيرا حزب السلام والديمقراطية 6.4%. وإذا توقف المتابع عند تصريحات الساسة وفى طليعتهم بطبيعة الحال رئيس الحكومة السيد رجب طيب أردوغان سيجد أمورا تدعو إلى الدهشة والحيرة معا، لدرجة يشعر معها المراقب أنه صار فى دولة محورها الوحيد هو أردوغان فقط، متجاوزا الكافة سواء المسئولين على اختلاف درجاتهم القيادية، أو المؤسسات. فالرجل لم يجد أدنى غضاضة فى أن يعلن على الملأ، عدم احترامه لقرارات المحكمة الدستورية العليا بالبلاد، ولرئيسها هاشم كيلتش الذى أتهمه بأنه خلع ثوب القضاة وانخرط فى السياسة، لا لسبب سوى أنها مارست ما هو منوط بها، ولأنها ملتزمة بالدستور وبنوده أطاحت بمساعيه الرامية، تارة إلى تقييد حرية المواطنين وحقهم فى متابعة تويتر ويوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعى، وتارة ثانية بسحب سطوته التى فرضت عنوة على السلطة القضائية فألغت تعديلات أقرها البرلمان بأغلبية ضئيلة وصدق عليها رئيس الدولة عبد الله جول. لكن أردوغان لا يستلسم بل على العكس اعطى إشارة البدء فى خطة قانونية تعرض على البرلمان فى جلساته القادمة بهدف محاصرة المحكمة نفسها، ولعل تصريحات مساعديه التى صبت جميعها فى ذات الاتجاه خير دليل على أن المعركة بدأت . أولى مشاهدها قبل أيام وفيها صور أظهرت صلة ما بين هاشم كيلتش و صالح ميرزا بى اوغلو زعيم منظمة جبهة التحرير الشعبية الثورية الماركسية المحظورة الذى حكم عليه بالسجن مدى الحياة والهدف واضح ألا وهو تشويه سمعة القاضى الذى يقال أنه مدعوم من فتح الله جولين وربما يخوض سباق الرئاسة المقرر له العاشر من أغسطس القادم. وباختصار ووفقا لما قاله مناوئون للحكم الحالى، أن أردوغان لا يريد أن يزاحمه أحد سواء شخصا كبيرا أم صغيرا. ولكن تبقى المعضلة الكردية واستحقاقها الذى يجب أن ينفذه، أتساقا مع ما سبق ووعد به. فبعد هدنة منها تم دعم حزب العدالة والتنمية الحاكم، عادت منظمة حزب العمال الكردستانى إلى عمليات الخطف وترويع المواطنين البسطاء وقطع الطرق وتخريب المصالح والمنشآت الحيوية، وبداياتهم كالعادة فى قرى وبلدات الجنوب الشرقى، التى تشهد أصلا تصعيدا حادا بين انصار العدالة والتنمية، وحزب السلام والديمقراطية الذراع السياسية لمنظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية، على خلفية مزاعم ادعاءات بتلاعب بنتائج المحليات وفاز فيها عنوة مرشح الحزب الحاكم، واخيرا ديار بكر. وبالتوازى عاد ترديد الشعارات الموالية لزعيمهم عبد الله أوجلان الذى يقضى عقوبة السجن مدى الحياة بجزيرة إمرالى ببحر مرمرة، وها هى مجموعة مسلحة تنقض على شركة مدنية للتنقيب عن النفط بضواحى ماردين المتاخمة للجارة السورية تم إشعال النار فى خزان للوقود إضافة إلى 3 شاحنات نقل بضائع . وهذا فقط لتذكير الحكومة بواجباتها، فالمنظمة ومعها اتحاد المجتمع الكردستانى أحد إمتداداتها، سبق وحذرا بضرورة اتخاذ خطوات باتجاه عملية السلام المتعثرة، وفى حال عدم الاستجابة ستعود المواجهات المسلحة فى سعى منهما إلى التفاوض مع الحكومة التركية تحت تهديد السلاح، وإجبار أردوغان لتقديم بعض التنازلات خاصة قبل موعد الانتخابات الرئاسية، على رأسها إعلان حكم ذاتى للأكراد بجنوب شرق تركيا، فى المقابل يدرك اردوغان أنه بدون دعم من حزب السلام والديمقراطية لا يمكن له الظفر بمنصب الرئيس من الجولة الاولى ، وقد يواجه صعوبة فى الجولة. المحللون من جانبهم أكدوا أنه لا مفر من إستجابة الحكومة نظريا على الاقل فهى مضطرة إلى تقديم تنازلات مهمة للاكراد فى شرق وجنوب شرق البلاد لإستمرار مساندتهم ولا يمكن فصل القرارات الخاصة بابعاد عددا من مديرى الأمن بمدينتى هكارى وتونجلى الجنوبيتان عن هذا التوجه خاصة وأن المبعدين يتبعون انصار جماعة الداعية جولين والذى لا يكن أى ود تجاه الأكراد إجمالا.