أعلام بدا عددها لا نهاية له، وإشارات بأحجام هائلة، وقد طغت عليها جميعا ألوان قوس قزح الزاهية، بتدرجاتها بين الأصفر والأحمر والأخضر، بحيث كست قلب «ديار بكر»، التى يصفها قطاع مهم من المجتمع التركى بأنها باتت من الناحية الواقعية، عاصمة الدولة الكردية المنتظرة. أكراد الأناضول ليس الأكثر عددا، فحسب، بل لأقرانهم فى القامشلى السورى المتاخم، وإقليم كردستان بمدينتيه اربيل والسليمانية المستقلتين عن بغداد وتنعمان بحكم ذاتى، إضافة إلى ذويهم الذين يحملون قسرا الجنسية الإيرانية، صحيح أن حلمهم فى «وطن» لم يتحقق حتى الآن، إلا أنه ليس بعيدا ومؤشرات ذلك ليست بالقليلة، فالزائر وهذا على سبيل المثال لا الحصر لتلك البقاع الواقعة بامتداد المثلث الحدودي، بدءا بالشام مرورا بجبال قنديل وصولا إلى الجارة الفارسية، سوف يجد نفسه بعد أن ينتقل من اسطنبول أو أنقرة، أمام عوالم شواهدها تقول إنها غير تركية، حيث لغة التخاطب الشفاهية مغايرة تماما، والقيم الاجتماعية والثقافية أيضا مختلفة، ونعرات تفخر جهرا دون رقيب أو خوف «أنا كردى». ولأن المناسبة كانت عيد «النيروز»، بدت البيوت وكأنها خلت من ساكنيها، بيد أنهم زحفوا بملابسهم التقليدية أفواجا إلى ساحة الاحتفال وسط المدينة المترامية الأطراف، ومن مدن وقرى الجنوب الشرقى جاء الأهل والأقارب من: باطمان وتونجلى وسيرت وغيرها، لنفس المكان ولذات السبب، الذى تزامن توقيته ببداية الربيع، وها هى السماء تشاركهم فرحتهم بلونها الأزرق الزاهى محتضنة كتلا صغيرة من السحاب الأبيض الناصع، والتى لم تمنع من انسياب أشعة الشمس الدافئة، وكى تكتمل الأجواء، وفى لحظات من نشوة الفرح، تهللت أسارير الحشود بعد أن أذيع اسم زعيمهم «آبو» هكذا يلقبونه، أنه عبد الله أوجلان قائد منظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية القابع سجينا مدى الحياة حتى الآن فى جزيرة إمرالى المحصنة ببحر مرمرة، وحينما بدأ أحد أتباعه المخلصين تلاوة كلمته زاد الصخب وتعالت الحناجر بشعار «حزب العمال الكردستانى هو الشعب والشعب هنا». وكالمعتاد أكدت جملها ومفرداتها مواصلة النضال من أجل نيل الشعب الكردى حقوقه كاملة، ولم ينس مريدوه تذكير الدولة بما يتعين عليها فعله فى إطار المصالحة التى تبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم ووافق عليها أوجلان ومنها اتخاذ خطوات جدية للتوصل إلى حل للقضية الكردية وإلا فالعواقب وخيمة . وكعادة كل سنة، انتهى ذلك اليوم الذى يوافق 21 مارس بعكس ما بدأه، ففى بلدة سيلوبى التابعة لمحافظة شيرناق الواقعة فى تلك الجغرافيا الاثنية، قتل شاب فى اشتباكات ومواجهات مع الشرطة، فرغم أنهم تجمعوا فى مسيرة احتفالية، إلا أنها اعتبرت غير شرعية، كونها لم تحصل على التراخيص اللازمة، لتلحق بمسيرتين أخريين غير قانونيتين فى قرينتها ماردين، وليواجهوا معا القنابل المسيلة للدموع التى أطلقتها قوات الأمن هذا بجانب خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين الذين استخدموا قنابل المولوتوف والألعاب النارية. ثم تهدأ الأوضاع ظاهريا، ليظل أصل الداء كما هو عصيا على العلاج، حتى مبادرة السلام والأخوة التى طرحها العدالة والتنمية، بعد ماراثون من المفاوصات السرية، فى ديسمبر العام قبل الماضى وعول عليها رجب طيب أردوغان الكثير، لم تعد تبرح مكانها، وتحديدا منذ سبتمبر الماضى عندما رفض مقاتلو المنظمة الانفصالية مغادرة الاراضى التركية إلى شمال العراق احتجاجا على نكوص حكومة أردوغان فى الإفراج عن زملائهم بالسجون، واعتراضا على تبرئة خمسة عسكريين قاموا بهجمات جوية نهاية عام 2011 أسفرت عن قتل 38 مواطنا كرديا نصفهم من الاطفال قيل انها كانت بطريق الخطا، وهو ما رفضه القادة الأكراد الذين اعتبروها مجزرة متعمدة، بالإضافة إلى كل ذلك أن مطالب شعبهم الأساسية لم تجد طريقها نحو التنفيذ، نعم تم منحهم حق التعليم بلغتهم لكن فى معاهد خاصة، وليس بالمدارس الحكومية وهو ما جعل جولتن كيساناك، وهى الشخصية البارزة فى حزب السلام والديمقراطية الذراع السياسية للمنظمة الانفصالية، أن تصف هذه الخطوة بالمشينة، قائلة «إنه لمن الإهانة للشعب الكردى أن نقول له إنه صار بمقدوره تعلم لغته الأم فقط إذا دفع مقابلا ماديا»، أما الكاتب السورى على جازو الذى يشارك كيشاناك، الهم عينه، فاعتبرها إجراء تلطيفيا، ذاك أن السماح لا يترافق مع إدراج الكردية لغة أساسية ثانية فى البلاد، ومعها يحظر عمليا اعتبار جمهورية تركيا مكونة من قوميتين أساسيتين؛ تركية وكردية، مع ما يستتبع ذلك من تغير جوهرى يطول صلب الدستور الذى من المفترض أن يشهد حزمة إصلاحات ولكن الأخير يبدو أنه لن يرى النور على الأقل فى المستقبل المنظور. على أى حال فكل شىء مؤجل، لحين إجراء الانتخابات المحلية، غير أن النتائج المتوقعة لا تنبئ بخير على صناع القرار الذين وضعوا أسسا للمصالحة على أمل طى الملف العصيب بكل آلامه، ومن ثم قد لا يكونون عنوان مرحلة ما بعد هذا الاستحقاق الانتخابى المفصلى، ومع افتراض أنهم تجاوزوه، فسيكون بنسب طفيفة، أى نجاح بطعم الهزيمة والانكسار فنفوذهم حتما فى تراجع، كما أن شكوك الأكراد تجاههم وتجاه حلفائهم من اعوان البرزانى تجذرت، ففى أربيل والسليمانية، سبق أن تظاهر الآلاف من النشطاء السياسيين ومعهم ممثلو الأحزاب الكردية من الأناضول وسوريا مطالبين حكومة كردستان بألا تظهر نفسها وكأنها ذراع لنظيرتها بزعامة اردوغان والابتعاد عن المراوغة والمصالح الاقتصادية الضيقة فى إشارة إلى إبرام عقود تنقيب واستخراج النفط من قبل رجال أعمال أتراك وأن تلعب دورا حقيقيا لحل المسألة الكردية وليس المساومة عليها.