«شم النسيم» ليس فقط أقدم احتفال شعبى فى تاريخ الإنسانية، بل أكثر الأعياد زخما وتركيبا فى حياة الشعوب، لازدحامه بالعادات والتقاليد المصرية القديمة، حيث تداخلت فيه بطريقة مدهشة المعتقدات المصرية القديمة، مع الديانتين اليهودية والمسيحية على نحو يليق بتاريخ مصر، وتراثها الغنى. فقبل نحو خمسة آلاف سنة اختار المصريون يوما عادلا يساوى بين الليل والنهار، من حيث الوقت، وطقسه معتدل، ويعتقدون أنه كان بداية الزمان، ويوم خلق وتجدد الكائنات، فابتدعوا لأجله عادة سنوية حيث يجتمعون للاحتفال به أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر فى لحظة سمُّوها الرؤية، يترقبون فيها اعتلاء الإله (الشمس)عرشه، قمة الهرم، فى لحظة محددة قبل الغروب ليكتمل قرص الشمس لدقائق معدودات، تتجلى فيها معجزة الشمس التى تقسم واجهة الهرم نصفين، شطر للضوء، والثانى للظل. وبعد رؤية هذه الإشارات يعود الناس إلى بيوتهم ليستعدوا لاستقبال شروق اليوم التالى، بتجهيز أدوات لعبهم وموائدهم ويرفعون دعواتهم وأمانيهم، فهى عندهم بمثابة ليلة القدر التى يستجيب فيها الإله لأدعيتهم ورجائهم.وكان استحمام كل أفراد الأسرة من مراسيم الاحتفال، حتى لا تلاحظ «الشمَّامة» أية رائحة غير زكية، وتُنزل لعناتها عليهم إلى العام التالي. وكذا نصح «امنحتب» المصريين بوضع الكحل فى عيونهم ليلة اليوم السابق لشم النسيم، ليظل نظرهم قويًا طوال العام. وفق بردية ترجمها العالم الفرنسى «ماسبيرو». وكان الناس يستيقظون قبل شروق الشمس، فمن تشرق عليه وهو نائم يظل كسولا طوال العام. وجاء فى برديات أن الرجل المصرى القديم كان يفتتح هذا اليوم بإهداء زوجته زهرة من اللوتس. وذهب مؤرخون إلى أن الاحتفال بشم النسيم يرجع إلى عصر ما قبل الأسرات، وأنه كان عيدا مشهودا فى مدينتى «هليوبوليس»و«أون». ورجح آخرون بدء الاحتفال بشم النسيم كعيد سنوى أواخر عهد الأسرة الثالثة قبل الميلاد بنحو 2700 سنة. وتزامن ذلك مع خروج اليهود من مصر، وهم تعمدوا الخروج فى هذا اليوم تحديدا لانشغال المصريين بطقوس احتفالهم، وهربوا بما سرقوه من ذهب البيوت التى كانوا يعملون فيها. وذكر«سِفْر الخروج» فى «العهد القديم» أنهم : «طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا، وأعطى الرَّب نعمة للشعب فى عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين». واتخذ اليهود هذا اليوم لاحقا رأسا للسنة العبرية، وأسموه «عيد الفِصْح»، وهى كلمة عبرية تعنى الخروج أو العبور. وحين سادت المسيحية مصر بالكامل فى القرن الرابع، ظهرت مشكلة فى الاحتفال بشم النسيم، إذ تداخل معه موسم الصوم الكبير 55 يوما الذى يسبق عيد القيامة المجيد،فى شهر «برمودة» من كل عام، ولما كان تناول السمك ممنوعا على المسيحين خلال الصوم، وأكل السمك من مظاهر شم النسيم،وفترة الصوم تتميَّز بالنُسك والعبادة العميقة، لذا أجَّل المصريون المسيحيون الأوائل الاحتفال إلى اليوم التالى على عيد القيامة المجيد الذى يأتى يوم الأحد دائما، فتحدد الاثنين التالى له عيد الشم النسيم، ومازال هذا التقليد متبعا إلى وقتنا الحالي. ولفرط تعلق أقباط مصر إلى الآن بذلك العصر، وإخلاصهم للتراث المصرى القديم وفكرة التداخل بين التراثين المصرى القديم والقبطي، فما زالو يطلقون أسماء ملوك مصر القديمة على أولادهم إلى الآن مثل رمسيس وأحمس وسيتى ومينا وزوسر وإيزيس ونفرتارى ونفرتيتى ، وما زالت الألحان المصرية القديمة تتردد فى أبهاء الكنائس. ويأتى «عيد التسبيح» أو «عيد الزيتونة» أو «أحد الشعانين» سابع أيام الأحد من بداية الصوم الكبير،ويحتفل أقباط مصر بذكرى دخول السيد المسيح عليه السلام القدس راكبا الحمار، والناس حوله يسبحون وهو يأمر بالمعروف، ويحث على الخير، ويحملون سعف النخيل، لهذا سُمى هذا اليوم بأحد الخوص «السعف». وانفعل الفنان الشعبى المصرى بهذه المناسبة الاجتماعية والدينية المهمة، وبحسِّه حوَّل السعف إلى رموز قبطية مبهجة، وأبدع من السعف جدائل موحية تجعل الكرنفال مبهجا، قبل بدء أسبوع الآلام، ذكرى صلب السيد المسيح عليه السلام، ويزيد برمهات هذه المناسبة الدينية جمالا، ويمنحها بعدا اجتماعيا مفرحا كونه شهر الحصاد والخير، تتفتح فيه الأزهار، ويسبب الحصاد السعادة للفلاحين. لهذا يكون «شم النسيم» قدم خير على المجتمع المصري، فيخرج الناس جماعات إلى الحدائق والحقول, لاستقبال الشروق، يحملون طعامهم وشرابهم، وأدوات لعبهم وآلاتهم الموسيقية, وتتزين الفتيات بعقود الياسمين، ويزين الأطفال سعف النخيل بالألوان والزهور، ويرقصون فرادى وجماعات على أنغام الناى والمزمار والدفوف،ويرددون أغانى الحصاد, ويتفنون فى ملء يومهم بالبهجة إلى غروب الشمس. ومن عادات المصريين القدماء الطريفة التى توارثوها إلى الآن كتابة أسمائهم على الأشجار يوم شم النسيم، ووضع سعف النخيل على مقابر موتاهم، وتوزيع الخبز رحمة على أرواحهم، وكانوا يسمونها «عيشاء»، وهو اسم الخبز إلى وقتنا هذا. والعجيب أن تدعو أصوات إسلامية متشددة وسط هذا الى عدم الاحتفال بهذا اليوم لأنه بنظرهم مرتبط بمناسبات يهودية ومسيحية، وبدلا من الدفاع عن الحقيقة التاريخية، بأسبقية قدماء المصريين والأقباط فى الاحتفال بهذا اليوم، أو الاحتفاء بكونه مناسبة جامعة للأديان والعادات، يدعون لإقصاء التاريخ والديانات السماوية الأخري، ونفى حقائق التاريخ المصرى القديم، فى عملية إقصاء شاملة، تتنافى مع صحيح الدين فى الإيمان بالله وكتبه ورسله، وهو ما يحققه هذا اليوم بصيغة ما. أما أصحاب القلوب والنفوس السمحة فيرونه أكثر الأعياد المصرية شعبية لجمعه المناسبات التاريخية والاجتماعية والفلكية والدينية فى عيد واحد، يحتفى فيه الشعب المصرى بعيدهم الأشمل، والأقدم فى تاريخ الإنسانية، وهو يوم الخلق الجديد، تتجدد فيه الطبيعة، والنباتات والزهور، وتزدهى الحقول بالخضار، ويهل الربيع ليجسد معنى وبهجة «شم النسيم». وهو ما استرعى انتباه المستشرق الإنجليزى «إدوارد وليم لين» حين زار القاهرة (1834م) ووصف احتفال المصريين بهذا العيد بقوله: «يُبَكِّرون بالذهاب إلى الريف المجاور، راكبين أو راجلين، ويتنزهون فى النيل، ويتجهون إلى الشمال على العموم، ليتَنَسَّموا النسيم، أو كما يقولون ليشموا النسيم. وهم يعتقدون أن النسيم فى ذلك اليوم- ذو تأثير مفيد، ويتناول أكثرهم الغذاء فى الريف أو فى النيل». وهى نفس العادات التى ما زال يمارسها المصريون حتى اليوم. ولم تقف ابداعات المصريين فى شم النسيم، فقد أضاف أهل بورسعيد معنى وطنيا جديدا لهذه الاحتفالية بابتكارهم عادة جديدة فى يوم شم النسيم سنويا بحرق دمية اللنبى الإنجليزى الذى كان يمثل لهم رمزا بغيضا للاحتلال.