هو المؤتمر السنوى لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذى نصّ قانون إنشائه على إقامة هذا المؤتمر على مدار أسبوعين (هما عادة الأسبوع الأخير من شهر مارس والأسبوع الأول من شهر أبريل)، وقد انتهى مؤتمر هذا العام يوم الإثنين الماضي. أما السبب فى طول مدة المؤتمر فيعود إلى أمرين: أولهما أن مجمع القاهرة يعرض على المؤتمر - الذى تشارك فيه جميع المجامع اللغوية العلمية العربية برؤسائها ونخبة من أعضائها - كلّ ما توصلت إليه لجان المجمع اللغوية والعلمية، لمناقشتها وإقرارها. فإذا تم اعتمادها، التزمت بها المجامع العربية وعملت بما تضمّنته من أحكام وآراء ومصطلحات. الأمر الثانى أن المؤتمر - بحكم قانون المجمع أيضًا - لابد له أن يتيح للمشاركين فيه، ولمرافقيهم، رحلة إلى بعض الأماكن السياحية فى مصر، بقصد التعرُّف عليها، والاستمتاع بمشاهدها الطبيعية، وآثارها التاريخية، وطقسها البديع فى مثل هذا الوقت من السنة. ولابد للمؤتمر أن يختتم اجتماعاته، وجلساته العلمية المغلقة، وجلساته المفتوحة للجمهور، بتوصيات ينتهى إليها ويبعث بها إلى الجهات المختصة. لكن المجمع منذ أربع سنوات، وبدعم كبير من الفقيه الدستورى الدكتور أحمد فتحى سرور - الرئيس الأسبق لمجلس الشعب - أعاد عرض مادته الخاصة بتوصياته ضمن قانونه، ليصبح ما يصدره مؤتمره قرارات ملزمة، يدفع بها المؤتمر إلى وزير التعليم العالي، المسئول دستوريًّا عن المجمع، ليقوم بدوره بمخاطبة وزراء التعليم والإعلام والثقافة بشأنها، مطالبًا بتنفيذها، كل فى نطاق اختصاصه. وقد تضمَّن تعديل تلك المادة فى القانون، بحيث تتضمن توقيع العقوبة على المسئول الذى يتقاعس عن تنفيذ هذه القرارات، على أن يقدّم المجمع إلى مجلس الشعب سنويًّا تقريرًا شاملاً عن وضع اللغة العربية فى المجتمع سلبًا وإيجابًا. وهى كلها أمور لم يكن ليظفر بها مشروع تعديل القانون، لولا تبنى الدكتور أحمد فتحى سرور له، ومؤازرته للنهوض باللغة العربية والعمل على التمكين لها فى كل قطاعات الدولة وهيئاتها ومؤسساتها، وحماسه الصادق للمجمع ورسالته ودوره الفاعل فى حياتنا المعاصرة. ولقد كان التعريب هو الموضوع الأساسى لمؤتمر هذا العام، التعريب بمعناه العام والشامل، الذى يعنى بسيرورة اللغة العربية تعليمًا وإدارة وإعلامًا وتواصلاً، وفى جميع قطاعات التنمية الشاملة والمستدامة، أداءً سليمًا على الألسنة والأقلام. فهو إذن لا يقتصر - كما يظن البعض - على ترجمة النصوص الأجنبية ونقلها إلى العربية، وتعليم العلوم الأجنبية بالعربية. ولا يقتصر على إيجاد مقابلات عربية للألفاظ الأجنبية، لتعميمها واستخدامها فى ميادين المعرفة. والتعريب بهذا لمعنى يتطلّب سياسة لغوية تلتزم بها الدولة، وقرارًا سياسيًّا ملزمًا وتنسيقًا معياريًّا لغويًّا، وعملاً دائبًا فى وضع المصطلحات، وفى مجال الصناعة المعجمية، وفى النظام التعليمى العربي، واللغة فى الإعلام على الشبكة الدولية (الإنترنت)، والتنسيق أخيرًا بين جمعيات حماية اللغة العربية، وهى فى مصر ثلاث جمعيات، تتكامل فى رسالتها وأهدافها: جمعية لسان العرب، وجمعية حماة اللغة العربية، والجمعية المصرية لتعريب العلوم. ولها نظائرها القائمة فى عدد من الأقطار العربية. وفى مناسبة الحديث عن المصطلحات العلمية التى تنجزها المجامع اللغوية العلمية العربية - وهى بالآلاف فى كل عام - يرى البعض أن هناك ما يمكن أن يسمّى بفوضى المصطلحات بسبب مناهج الواضعين لها، وغياب وسائل النشر المصطلحى الفعالة، حتى يصبح الجميع متابعًا بصورة فورية لما يصدر عن هذه المجامع، بالإضافة إلى الجهل بالمصطلحات التراثية والحديثة، واختلاف الخلفية الثقافية واللغوية للمترجمين. علماً بأن هذه المصطلحات تعانى تعدُّد الجهات التى تضعها من مجامع لغوية وجامعات واتحادات علمية ومنظمات عربية ومترجمين وباحثين وأكاديميين وإعلاميين، كما تعانى تعدد مناهج التعريب وتعدد توجهاته من لجوء إلى المصطلح التراثى القديم أو لجوء إلى الاشتقاق أو إلى النحت، الأمر الذى يؤدى إلى استجابة بطيئة للمصطلحات الجديدة،فى عصر ينفجر معرفيًّا فى مختلف الميادين. ويؤكّد المجمع فى كل ما يصدر عنه من أبحاث ودراسات أن اللغة هى عنوان الهوية، وصانعة ملامحها وقسماتها الرئيسية، وأن كل ما يصيب هذه اللغة من دعاة الاستغراب والواقفين فى وجه التعريب - وبخاصة فى مجال العلوم - هو بمثابة الخيانة والتنكُّر لهذه الهوية - بقصد أو بغير قصد - وانعدام الثقة فى هذه اللغة وهذا التعريب اللذين كانا وراء ازدهار الثقافة العربية والإبداع العربى - فى الآداب والعلوم والفنون - طيلة العصر العباسى فى المشرق العربى وعواصمه بغدادوالقاهرة ودمشق، والمغرب العربى وعواصمه القيروان وشنقيط وقرطبة - عاصمة الأندلس خلال قرون الحضارة العربية الإسلامية-. ومن أهم ما تؤكده قرارات مؤتمر هذا العام العمل على التنسيق بين جمعيات حماية اللغة العربية، وهى جمعيات أهلية، غير حكومية، تعمل على صون اللغة العربية وحمايتها فى وجه ما تلاقيه من تحديّات، ولها أنشطتها وفعالياتها فى هذا المجال، وبخاصة أن العمل التطوعى فيها مثال حيّ ينطق بالانتماء إلى الأمة والعمل على خدمة لغتها. لقد بُحّت أصوات علمائنا اللغويين والتربويين وهى تنادى بالحفاظ على اللغة العربية، والوعى بقدرها ومكانتها بين اللغات العالمية، لأن اللغة الأم هى الوطن الروحى لكل فرد فى الأمة. وإتقان لغة أجنبية أو أكثر من لغة هو ضرورة وطنية وقومية، لاتساق المعرفة وتكاملها؛ ذلك أن الدعوة إلى النهوض بالعربية لا تتعارض مطلقًا مع الدعوة إلى الاهتمام بدراسة اللغات الأجنبية، فبدونها نفقد التواصل مع العصر ومنجزاته، وتنحصر اهتماماتنا ومداركنا فى إطار ما عرفناه ونلوكه ونمضغه باستمرار. وكل لغة حية نتعلمها، تمنحنا رئة جديدة للتنفّس، ومساحات جديدة من الوعي، وآفاقًا جديدة من حرية المعرفة والتمسك بقيمها، إيذانًا بقيام مجتمع المعرفة، الذى يقوم على نشر المعرفة، وتوزيعها، وتقاسمها، وتبادلها، ونقلها بيسر وسهولة من فرد إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، وتمثّلها، وإنتاجها، وتوليدها، والإبداع فيها، وتوظيفها فى جميع مجالات النشاط الإنساني. ذلك أن نشاط المجتمع كله قائم على اساس معرفي، يتوافر فيه كمٌّ كبير من المعلومات والمعارف المتاحة لجميع أفراد المجتمع بصورة حرة ومجانية. وقد نصّ تقرير التنمية الإنسانية العربية (2003) على اهمية دور اللغة فى تكوين مجتمع المعرفة بقوله: «دور اللغة فى مجتمع المعرفة جوهري، لأنه أساس رئيسى من أسس الثقافة، ولأن الثقافة باتت هى المحور الأساسى الذى تدور فى فلكه عملية التنمية. واللغة محورية فى منظومة الثقافة لارتباطها بجملة من مكوّناتها، من فكر وإبداع وتربية وإعلام وتراث وقيم ومعتقدات. أكتب هذه السطور عن المؤتمر الأخير للمجمع وعن قراراته وتوصياته، مؤمنًا بأن هناك من لا يثق فى المجامع اللغوية العربية ولا يعلّق عليها آمالاً كبارًا، ومن يرى فى صيغة مراكز الدراسات اللغوية والبحث اللغوى بديلاً أفضل من صيغة المجامع، ومن يردد باستمرار أن المجامع تضمّ المسنين (العواجيز) من العلماء فى اللغة وفى العلوم، وأنها بحاجة إلى نبض شبابى وروح فتية لتستيقظ مما هى فيه من سبات. وقد يكون لدى هؤلاء بعض الحق فيما يوجهونه من اتهامات، لكن ما يشهده مجمع القاهرة الآن فى هذا العام الذى سميته «عام الإنجازات المجمعية»، يدحض هذا كله، ويفتح الباب واسعًا أمام عمل مجمعى جديد ومختلف، ونهضة لغوية ستؤتى ثمارها مع انتظام أحوال المجتمع واستقراره على المرفأ الآمن. لمزيد من مقالات فاروق شوشة