أخفّ ما يمكن أن يقال عن قرار محكمة جنايات المنيا بإحالة أوراق 528 متهماً إلى فضيلة المفتى إنه لم يكن متوقَّعاً حتى من أشدّ أعداء جماعة الإخوان وحلفائها، وإنه الأكبر فى قضية جنائية فى العصر الحديث. وأما إذا كان هنالك نقد فإنه يُوَجَّه فى الأساس إلى المنظومة التشريعية التى تجيز أن يصدر مثل هذا القرار، ولكنها لا توفر للقضاء المرجعيات التى تساعد على النيل بالسرعة نفسها من مجرمين عتاة شاعت جرائمهم فى العالمين، وأن تنزل بهم العقاب المستحق ولا تسمح لهم أن يمرقوا دون جزاء عادل بعد أن زوّروا إرادة الناخبين، واستولوا على الحكم واستبدوا به ضد إرادة الشعب، وأفسدوا الحياة السياسية، واعتمدوا تعذيب المواطنين وإهانتهم لردعهم عن ممارسة حقوقهم الدستورية والقانونية، وعملوا وساعدوا على تهديد النظام الجمهورى باعتماد توريث الحكم، وبددوا الملكية العامة، ونهبوا المال العام، واستولوا على أراضى البلاد بثمن بخس، ودمروا أجهزة الإعلام القومية بتسخيرها للدعاية لحكم فاسد مرفوض، واحتضنوا الفاسدين والفاشلين وأقصوا أصحاب الكفاءات ودعاة الإصلاح، وأهملوا النساء والأطفال والشباب والشيوخ والمعوزين، وأجبروا الشعب على العيش وسط القمامة والضوضاء، وتسببوا فى الإحباط العام وتآلفوا معه، ووضعوا القوانين المعيبة التى تقيد الحريات وتعرقل تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف ومن ناحية أخرى تجيز التصالح مع اللصوص الكبار إذا أعادوا الجزء المفضوح من سرقاتهم وأفلتوا بالثمين، وأثروا ثراءً فاحشا بالبيع والشراء فى ديون مصر، واستغلوا وظيفتهم العامة فى دعم البيزنس الخاص بهم ووقعوا على العقد الواحد بصفتين متناقضتين كبائع ومشترٍ، وقتلوا المئات فى العَبّارات الغارقة، واستهانوا بحقوق الشعب فى التعليم والصحة والمسكن والكساء..إلخ إلخ خرج هؤلاء المجرمون فى مهرجان البراءة للجميع، ولا يزالون يخرجون، لأنهم يُحاكَمون وفق قوانين وضعوها بأنفسهم أو تركوها تمر من عصور غابرة! وهذا يعنى أن العلاج لن يتأتى إلا من المنبع بوضع التشريعات التى تحقق العدالة بحق، وأن يُعاد النظر جذرياً فى التشريعات المعيبة التى جرى فبركتها لتقنين البطلان وجعله يبدو وكأنه حق واجب الاستحقاق. كما أنه ينبغى التوقف عن السياسة التى اعتمدها الإخوان بالإساءة العمدية للقضاة وأحكامهم، بل ينبغى تشجيع الهيئة القضائية على المضى قدما فيما يلوح من بوادر جادة لا تستهين بأخطاء من يخطئ من صفوفهم ويصل الأمر بإحالته للصلاحية. وينبغى الإقرار بأنه إذا صدر الحكم مطابقاً للقرار، بعد نظر المفتي، فلا سبيل للطعن عليه إلا عبر السبل القضائية، وبأنه ينبغى الالتزام فى كل الأحوال بالتقاليد واجبة المراعاة بوقف اللغو غير المسئول، خاصة ما يذهب أصحابه إلى التطاول بتأويلات لا سند لها وبافتراض دوافع بلا مؤشرات. بل إنه، حتى مع أشدّ التحفظات على القرار، فإنه ينبغى الإشادة بشجاعة القضاة الذين قرروا ما يرونه يحقق العدالة وهم يعلمون أن هناك أخطارا حقيقية تحيق بهم. ثم، بعد أن تنتهى درجات التقاضى بحكم نهائي، وليس قبل ذلك، يمكن لرئيس الجمهورية، سواءً المؤقت أو القادم، أن يمارس صلاحياته فى اتخاذ ما من شأنه أن يحقق التوازنات التى لا ينبغى للقضاة أن يتورطوا فى الإمعان فيها. ذلك لأن المكابرة قد تؤدى إلى تبعات تنطوى على أضرار مما ينبغى تفاديها فى كل الأحوال، وخاصة فى الظروف التى نمر بها منذ 30 يونيو، وقد تبين أن قوى لا ينبغى تجاهلها باتت تتصيد لنا الأخطاء أو تخترعها اختراعاً إذا لم تجدها، وقد شنوا الحملات ضد القرار المذكور، وصحيح أننا نرفض رفضاً قاطعاً أن تتدخل قوى خارجية فى شئوننا الداخلية، ولكن ينبغى أن نتذكر أننا لسنا وحدنا فى العالم، كما أن هذا الرفض المطلق يعيق التواصل والحوار مع الخارج، كما أنه قد يعرقل أن تقوم مصر بدورها الخارجى تلبية لاستجارة المظلومين والمقهورين الواقعين تحت نير الاستبداد أو تحت قهر التعصب والعنصرية، ومن هؤلاء الضحايا من يرتبطون بوشائج ثقافية أو دينية أو قومية مع الشعب المصرى وينتظرون منه العون، كما أن الثورة تتطلع إلى آفاق يكون فيها لمصر دور إنسانى أكثر رحابة وأبعد عمقاً. علينا أن نتحاشى الوقوع فى تناقضات بحجم أن نطالب بتدخل العالم فى حل بعض مشاكلاتنا، ثم، فى ظروف أخري، نرفع شعارات ترفض بالمطلق حتى الملاحظات الخارجية. وينبغى التنبه إلى الأخبار التى تقول إن أكثر من نصف مليون شخص عبر العالم وقعوا على عريضة بعنوان: «أوقفوا الإعدام الجماعى فى مصر»! والموقعون فى تزايد بمعدلات كبيرة، ولنا أن نتصور ما سوف يترتب على ذلك! ما يُخشى منه الآن أن تنقلب الأمور من أن تكون هذه القرارات والأحكام رادعة للإرهابيين إلى أن تكون لجاماً لمصر من أن تتخذ موقفاً حاسماً تجاههم! لقد كان الإنجاز المهم فى 30 يونيو الإطاحة بحكم لا يُكِنّ احتراماً حقيقياً للبشر ولا يقيم وزناً للحياة، إلى حد إيقاع التفجيرات الهائلة دون اكتراث لمقتل من يتصادف عبورهم فى الجوار! ولكن الثورة لم تقم لتعاقِب هؤلاء بأساليبهم المرفوضة، بل بترسيخ قيمة احترام الحياة، والتحرز بكل جهد إزاء إزهاقها، ليس فقط لإثبات الفارق الحضارى بين الثورة وبينهم، ولكن لغرس قيم لن ترقى البلاد إلا برعايتها، لتربية الناشئة على أن القتل أمر جلل، حتى الدولة لا تقوم به نيابة عن الشعب إلا بعد التيقن التام من تورط الشخص بنفسه، أو بالمشاركة بالتخطيط والتمويل، فى قتل نفس خارج القانون. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب