إذا كان الشاعر القديم قد اعتبر أن «من وعى التاريخ فى صدره، أضاف أعمارا إلى عمره»، فإن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة الآن: أى تاريخ يمكن أن يعتمد عليه، ويركن إليه. وماذا عن الأحداث الآنية التى تشهدها مجتمعاتنا كالثورات، ومن يعوّل عليه فى كتابتها بتجرد وموضوعية بعيدا عن الهوى . فى السطور التالية نعرض لرأى المؤرخ الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة، والمؤرخة د. نيللى حنا رئيس قسم التاريخ والحضارة الأسبق بالجامعة الأمريكية فى محاولة للوصول إلى وعى تاريخى أكثر عمقا ، ونبدأ لقاءنا مع د. عفيفى... هل تبرّئ المؤرخ من الهوى فى كتابة التاريخ؟ بشكل عام، لابد من طرح السؤال : من هو المؤرّخ، وهل المؤرخ هو أستاذ الجامعة الأكاديمى، أم هو من له قدرة على تدوين الأحداث؟ أم من له القدرة على تحليل الحدث نفسه . وتابع : مفهوم المؤرخ مختلف عليه بشكل كبير، لاسيما من يؤرّخ للأحداث المعاصرة أو الحسّاسة. المؤرخ بشر فى النهاية ،فى الماضى كان يجرى تصوير المؤرخ وكأنه كاهن ، يحمل حصانة ، ويكون فى مأمن . من صنع هذا الكهنوت؟ المؤرخون أنفسهم . كيف يمكن للمؤرخ تناول الوقائع المهمة حديثة التكوين مثل ثورات الربيع العربي؟ هناك وجهة نظر تذهب إلى أن التاريخ لا يمكن كتابته فى اللحظة الحاضرة، ولابد أن ينتظر المؤرخ، حتى تتضح الصورة ، لعدة أسباب: أولها توفر الوثائق، وثانيها البعد عن الغرض والهوى. وأعتبر أن كل هذا ما هو إلاّ نوع من الكهنوت المصطنع ليظل المؤرخ فى أمان. وتابع :الدراسات الغربية كسرت هذا الآن، وأصبح لدينا الآن التاريخ الحاضر، ولا توجد مشكلة فى أن يكتب المؤرخ التاريخ الحاضر لعدة أسباب: أولها: سقطت فكرة أن المؤرخ كلما كان بعيدا عن الحدث، يكون أكثر موضوعية ، بدليل أننا إلى الآن مختلفون على محمد على ، وجمال عبد الناصر، وعلى فترة الصحابة والفتنة الكبرى . ثانيها: فكرة توافر المادة التاريخية والعلمية ، مع ثورة التكنولوجيا والوسائل الحديثة ، ومع تطور النظم الديمقراطية، وكلما كان النظام ديمقراطيا ، أتاح ذلك تسجيل الأحداث بسرعة. وتابع د. عفيفى: من هنا فإن التاريخ الحاضر يشترك فيه ليس فقط المؤرخ، والأكاديمى، بل يشترك فيه الصحفى وعالم الاجتماع. وأضاف :يمكن تسجيل الأحداث إذا توافر مناخ ديمقراطى ، لأنك ستكشف حقائق، فهل المؤرخ قادر على ذلك ؟ هذا موضوع آخر. وإذا كان هناك إرادة مجتمعية ، وإرادة مؤرخ يمكن توثيق الأحداث الحالية. كيف يمكن أن نستفيد من الأدب فى توثيق التاريخ ؟ من البداية كان التاريخ والأدب شيئا واحدا، وفن السرد نفسه فى الاثنين، من أجل ذلك كانت كلمة «هيستورى» بالانجليزية تعنى التاريخ و «إستوار» بالفرنسية تعنى قصة أو حكاية إضافة إلى معنى التاريخ. ونشأة التاريخ كانت مرتبطة بالأدب بشكل كبير ،لدينا مثلا أشعار هوميروس فى التاريخ اليونانى , حتى فى التاريخ الإسلامى ، كان الشعر الجاهلى هو المصدر الأول لتاريخ العرب قبل الإسلام ونزول القرآن ،فعلاقة الأدب بالتاريخ أساسية. ولى بحث يثبت أن ثلاثية نجيب محفوظ وأعمالا أخرى له مثل «أمام العرش» أهم وأصدق من وثائق تاريخية كثيرة. والناس تقرأ الأدب أكثر مما تقرأ التاريخ . وهذا ما يصنع الوعى التاريخى لدى الشعوب.والسينما نفسها مصدر للتاريخ، وتصنع الوعى التاريخى. وعلى سبيل المثال فإن معلومات 95 فى المائة من المصريين عن فترة ما قبل ثورة يوليو تأتى من فيلم « رد قلبى» . ما الذى يصنع الوعى التاريخى؟ ما يصنع الوعى التاريخى هو الأدب والفن فى الأساس. هل تعرّضت ثورة يوليو لتزييف المؤرخين؟ ثورة يوليو تعرضت لنوع من أنواع التمجيد الشديد ، لدرجة القطيعة مع ما قبلها من تاريخ مصر .فعندما أراد البعض تمجيد ثورة يوليو قال إن ثورة 19 فشلت، وأراد البعض أن يجعلها بداية التاريخ ، وهذا ليس حقيقيا.والأستاذ محمد حسنين هيكل سنة 69 أعاد الاعتبار لثورة 19 بإشرافه على نشر وثائق هذه الثورة بمناسبة مرور 50 عاما عليها. وكتب هيكل بنفسه مقدمة للكتاب الذى نشرته « الأهرام» «50 عاما على ثورة 19» ،وقال فيها إن ثورة 23 يوليو فى شكل من أشكالها هى امتداد لثورة 19. وهذا هو الصحيح .ولكن عندما جاء السادات انقلبت الآية ، وأصبحت ثورة 23 يوليو هى سبب المشكلات والديكتاتورية العسكرية. وفى الحقيقة أن ثورة 23 يوليو وقعت بين المطرقة والسندان،أى وقعت بين التهويل والتهوين من شأنها. من يعوّل عليه فى كتابة تاريخ حقيقى للثورات ؟ الشعب نفسه، لأن المؤرّخين يكتبون للشعب، فلو استطاعوا الضحك على الشعب، لقضى الأمر، ولكن لو لم يستطيعوا الضحك على الشعب، حينها سيكون الشعب هو الحكم .والمشكلة ليست فيمن يكتب، لأن من يكتب لا يخلو من ايديولوجيا معينة تقف وراء كتاباته، وعنده فكر مسبق.فمن لديه ميول ناصرية، سيكتب حسب ميوله، ومن لديه ميول وفدية سيتّبعها فى كتاباته.لكن وعى المتلقى هو الذى يعيد الأمور إلى مسارها الصحيح . وأى كتابات تاريخية لابد أن تناقشها الصحافة والتليفزيون ، ويناقشها الناس على الملأ .لكن إذا كان الشعب مغيبا ، سنجد عمليات التزييف فى التاريخ لا نهاية لها. وتابع د. عفيفى: لابد من الاستمرارية فى تاريخ مصر، وليس القطيعة بين الأحداث، لأنه للأسف كل طرف يتخندق عند حدث معين أو شخصية تاريخية معينة: «ناصريون ، ساداتيون، مباركيون»،.. وهكذا, إلا أن البطل يظل هو الشعب وليس الزعيم. كيف يستفيد المؤرخ من الوثيقة؟ وكيف يسىء استخدامها لحاجة فى نفسه؟ المفهوم التقليدى للوثيقة هى الأوراق الرسمية التى تصدرها الدولة، والدراسات الحديثة أثبتت كذب وزيف ذلك. المؤرخ كان كاهنا يكتب للدولة، وكان دائما خائفا من الدولة، وينتظر50 سنة حتى يكون فى الأمان.واكتشفنا أن كل ذلك خطأ، وأن الوثيقة الرسمية من الممكن ألا تكون دقيقة، وتكون أحيانا مزيّفة « بكسر الياء». ولقد سقطت فكرة الوثيقة الرسمية، وأصبحت المصادر غير الرسمية أصدق، مثل:الأدب،الأفلام. وعلى أي حال فإن ثورة يناير قلبت موازين التوثيق ، لأنها كانت ثورة «أون لاين» وأن: مفهوم الوثيقة تغير ، بشكل كبير جدا. ويجب ألا ننتظر الوثائق لمدة معينة كما كان متبعا، لأن كل يوم تخرج وثائق جديدة، منها التصوير الحى للأحداث، وتسجيل المكالمات ، وتصوير جوجل ايرث ، وكل هذه وثائق.وهذا يفيد المؤرخ، ولكنه فى الوقت ذاته سيجعل المؤرخ فى حاجة ماسة لتغيير مهاراته. وتابع :الآن المؤرخ أمام أحداث ثورية كبيرة جدا، ولابد من التعلم من كيفية التعامل مع الوثائق الجديدة، لأن التصوير والجرافيتي، أصبح وثائق، فضلا عن التاريخ الشفاهى. وستحدث تطورات فى كتابة التاريخ ،وستكون طريقة البحث العلمى التاريخى أوسع، بسبب هذا . واختتم د. عفيفى: المدرسة التاريخية المصرية فى محك رهيب بشأن كيفية التعامل مع هذا القادم الجديد.
د. نيللى حنا:بعض الشباب لايعرف عبد الناصر!
د. نيللى حنا.. كيف يمكن للمؤرّخ كتابة التاريخ الآنى لأحداث مهمة كالثورات؟ لابد للمؤرّخ من مسافة فاصلة بينه وبين الحدث الآنى، لكى يفهم، ولكى تتضح له أبعاد الصورة بالكامل، لأن المعلومات وقت تكوّن الحدث تكون غير كاملة، وقد يلمّ المؤرخ بزاوية، وتغيب عنه زوايا أخرى. لذا فصعب جدا أن يرى المؤرخ الصورة كاملة فى الأحداث الآنية المتغيرة، ويقدّر الوضع تقديرا سليما. وعن وظيفة المؤرخ فى إدراك الحدث التاريخى بصورة متكاملة،تقول د. نيللى: الفهم التاريخى ليس سهلا، ولابد للمؤرخ أن يرى الصورة بكامل أبعادها ويأخذ فى الاعتبار كل وجهات النظر، ولا ينحاز لوجهة نظر معينة لحاجة فى نفسه، وعلى المؤرخ أن يقدّم رؤية متوازنة للتاريخ الذى يكتبه، ويناقش مختلف الاتجاهات، ويرجّح اتجاها بالمنطق والعقل، ولا يرسل الكلام على عواهنه. وعن الوثيقة ودورها فى كتابة التاريخ وهل تغيّرت نظرة المؤرخين للوثيقة؟ الوثيقة يمكن أن تفسّر بأكثر من طريقة، ولابد من طرح أسئلة مثل: من كتب الوثيقة؟ ومتى كتبت؟ وماذا وراء السطور فيها ؟ وكيف يمكن أن يقرأ المؤرخ الوثيقة بشكل متزن حتى يستفيد منها بشكل علمى منهجى؟ ولابد من أن يتنبه المؤرخ إلى أن الوثيقة قد تعكس مصالح طبقة اجتماعية معينة، لذلك فلابد من أن نقرأ الوثيقة بعين نقدية بصيرة. وردا على سؤال عن تعدد قراءة المؤرخين لحدث مهم مثل 23 يوليو؟ قالت د. نيللى :إن الإطار العام اليوم حتما قد يضيف جديدا لمن يريد أن يعيد قراءة ثورة 23 يوليو على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، لأن الأحداث التى نعيشها تعيد تسليط الأضواء على جوانب مهمة فى ثورة 23 يوليو، لا تزال مجهولة، أو موضوعات تم تأريخها ولكن بطريقة غير متوازنة. إلى أى مدى يمكن أن يستفيد المؤرخ من الأدب فى الكتابة التاريخية؟ استفدت شخصيا من الأدب فى كتاباتى، الأدب يحتفى بالإنسان، وهو ما يكمل جوانب مهمة فى الصورة التى يتغيّاها المؤرخ . على من نعوّل فى تقديم تاريخ صحيح يعتمد عليه؟ القارئ وحده هو الذى يجب عليه أن يبذل جهدا فى فهم الكتابة التاريخية ، بأن يوازن مختلف الآراء، ويمحصها، ولا يسلّم بأى معلومة تاريخية دون أن يعرضها على فكره وعقله، لأن الكتابة ربما لا تخلو من تعبير عن مصالح وهوى من يكتب. من يصنع الوعى التاريخي؟ الإجابة صعبة بكل تأكيد، لأنه لا يوجد عامل واحد، بل تتداخل عوامل كثيرة فى تكوين الوعى التاريخى، منها قوة وعمق التجربة التى يمر بها الشعب، وهناك التعليم والكتب المدرسية. وتابعت: من يصدق أنهم ألغوا التاريخ وقتا ما؟ وتساءلت د. نيللى فى استنكار: من المسئول عن الجهل الفاضح للشباب بتاريخهم، لدرجة أن بعضهم لا يعرف من هو محمد على، ولا من هو جمال عبد الناصر؟ وتابعت: المدرسة يجب أن تلعب دورا مهما فى تكوين الوعى التاريخى للشعب. لك تجربة مميزة فى كتابة التاريخ، من خلال كتابك «سيرة أبو طاقية»، شهبندر التجار» ما الجديد فيها؟ الجديد فى الكتاب، أنه من خلال دراستى فى المحاكم الشرعية تعرفت على تاجر له العديد من التعاملات التجارية من شراء عقارات وغيرها، ومن خلال المئات من الحجج المسجلة فى المحاكم لفترة 40 50 سنة، استطعت أن أحلل الجوانب المتعددة فى حياته، سواء الجوانب الأسرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومكانته وعلاقته بالسلطة. والجديد فى كل هذا هو ماتوصلت إليه من عدم صحة الرأى السائد آنذاك من أن التجارة الدولية انهارت بعد دخول الأوروبيين الهند، وإنما كان للتجار علاقات متعددة قوية فى بلاد كثيرة منها: الحجاز واليمن والهند وإفريقيا واستنبول وبلاد الشام.