عديدة هي الملفات المسكوت عنها في سياق وزخم الثورات العربية، وبصفة خاصة الثورة المصرية؛ وذلك إن الثورة بطبيعتها التي تستحق هذا الاسم تبدو كالبركان الذي ما أن تنفتح فوهته حتي يسارع بإخراج ما بداخله من حمم، تشكلت بفعل الضغوط والتراكمات والتفاعلات عبر الزمن، فتحت الثورة المصرية العديد من الملفات، خاصة ما تعلق منها بطبيعة الاستبداد والحريات وبناء نظام سياسي جديد، وكذلك المواطنة وطبيعة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة ومواطنيها، ومع ذلك فقد بقي العديد من هذه الملفات طي الكتمان، بل طواه الصمت وغاب عن أذهان الناشطين والثوار وجدول الأعمال الجديد الذي بلورته الثورة المصرية والمصريون. عصفت الثورة بالعديد من المقولات والمسلمات التي تبناها العديد من المستشرقين حول طبيعة الشعوب العربية وسلبيتها وخضوعها للاستبداد، وغربة بلاد الإسلام والعرب عن مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والثقافة الديموقراطية وبدت هذه السمات السلبية التي لحقت بالشعوب العربية في الخطاب الاستشراقي، كما لو كانت معطيات بيولوجية وانطولوجية تستعصي علي التغيير، أو تخضع لسننه، أو كأنها الاستثناء المتفرد في عالم التحول إلي الديمقراطية وحقوق الإنسان، لقد وضعت الثورات العربية نهاية لهذه المسلمات وأوضحت بما لا يدعم مجالاً للشك انخراط الشعوب العربية في الصيرورة التاريخية والعالمية الراهنة والتي يتلخص مضمونها في كون أن الديمقراطية تمثل القيمة الإنسانية المشتركة في عالم اليوم، وأن هذه السمات السلبية الظاهرة في الخطاب الاستشراقي حول الشعوب العربية، لم تكن في حقيقتها سوي طور من أطوار التراكم في الوعي والمخزون الجمعي والوجدان والوعي العربيين، كان ينتظر اللحظة المناسبة للظهور إلي العلن ببدء الحراك الشبابي الثوري الذي سرعان ما تطور وفق قوانينه وآلياته إلي ثورات ضد الاستبداد وطلب الحرية والديموقراطية. ورغم عمق وشمول التغيير علي الأقل من زاوية الخطاب العام السياسي، فقد بقيت القضية الفلسطينية بكافة جوانبها تمثل الغائب الأكبر في جدول الأعمال الجديد المطروح علي الثورات العربية، بدت هذه القضية وكأنها «تابو» يحظر الاقتراب منه أو التعامل معه رغم حضور القضية في وعي ووجدان كل الفئات التي شاركت في اللحظة الثورية العربية. كان المأمول في البدايات، أي بدايات التغيير الذي أعقب الثورات أن تحظي هذه القضية المركزية في الوعي العربي بما تستحق من مكانة وأهمية في أنظمة ما بعد سقوط الأنظمة القديمة، شغلت القضايا الداخلية للتغيير الحيز الأكبر من الاهتمام والتركيز، وكان ذلك مفهوماً ومقبولاً، أي أن تتم معالجة أوضاع ما بعد الثورات، وإعادة ترتيب الأوراق الداخلية، علي أن يفضي ذلك إلي ظهور وتبلور رؤي جديدة ومقاربات جديدة لتعامل الثورات العربية مع القضية الفلسطينية. ولكن بمرور الوقت بدأ وكأن هذا الموقف لا ينخرط بالضرورة في مجرد إعادة ترتيب الأوراق والأولويات، أو كأنه مجرد مهلة لالتقاط الأنفاس، تمهيداً لاستعادة زمام المبادأة والمبادرة لطرح القضية الفلسطينية علي ضوء المعطيات الجديدة في الموقف، وطبيعة التغيير ومداه، علي العكس من ذلك فقد بدا - ويا للأسف - أن مواقف أنظمة ما بعد الثورات من القضية الفلسطينية تتجاوز ذلك بكثير، لتنخرط في تفضيل غياب هذه القضية أو إبقائها علي النحو الذي كانت عليه في السابق، أو كما لو كانت الأولويات الجديدة حجة وذريعة لتجاوز القضية الفلسطينية، أو دفعها إلي مرتبة في الوعي متدنية، تمهيداً للخلاص من القيود التي تفرضها علي الأنظمة والالتزامات التي ترتبها. والحال أن الثورة المصرية، بالذات ودونا عن بقية الثورات العربية لا تملك ترف تجاهل القضية الفلسطينية أو دفعها إلي مرتبة متدنية في الوعي العام، أو إبقائها كما كانت عليه في السابق، ذلك أن مصر بحكم موقعها وطبيعتها ودورها وثقلها - الذي سوف تستعيده. ليس بمقدورها إرجاء تفعيل القضية الفلسطينية أو إعادة بنائها وتوحيدها وطرحها وفق مقاربة جديدة، لأن مصر تعي جيداً أو هكذا ينبغي أن تعلم أن القضية الفلسطينية تمثل قلب العالم العربي ونبضه وفلسطين هي الطريق الوحيد والأكثر فاعلية لمصر نحو استعادة مواقعها في النظام العربي ولدي الشعوب العربية. أي حديث عن الدور المصري الإقليمي دون دور مصر في قضية فلسطين، واستعادة فاعليتها وتأثيرها هو حديث خارج الواقع، إن لم يكن خارج التاريخ، ذلك أن التاريخ والجغرافيا والثقافة تجعل من التداخل بين الأمن القومي المصري والأمن الفلسطيني والعربي ضرورة تستوجب التنسيق والتعاون والفهم المتبادل. القضية الفلسطينة بحاجة لظهير مصري وعربي فعال يعوض اختلال التوازن لصالح إسرائيل علي الصعيد العسكري والاستراتيجي، وليس بمقدور مصر إرجاء تفعيل هذا الظهير حتي الانتهاء من مهمات بناء نظام سياسي جديد، بل علي العكس تشير كل المعطيات إلي ضرورة مبادرة مصر فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، سواء تعلقت هذه المبادرة بطرح صيغة المؤتمر الدولي للتسوية بمشاركة الأممالمتحدة، عوضاً عن انفراد الإسرائيليين بالفلسطينيين برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو عبر مسالك جديدة، لتفعيل العلاقات المصرية الفلسطينية تمهيداً لبلورة مقاربات جديدة متفق عليها لكي تكسب القضية الفلسطينية زخماً جديداً ينتسب إلي الثورات العربية. ويمكن البدء في هذا المجال باتخاذ وتبني مقترحات جديدة لتطوير العلاقات الفلسطينية المصرية مثل استئناف دور مصر في المصالحة، وإعادة بناء الحقل السياسي الفلسطيني، واستعادة الطابع العروبي والقومي للقضية الفلسطينية، باعتبار هذه القضية ليست فلسطينية، فحسب أو عربية، فحسب بل إسلامية وعالمية أيضاً، وكذلك اعتماد التآخي بين المدن الفلسطينية والمدن المصرية، وكذلك التآخي بين الجامعات المصرية والجامعات الفلسطينية وإنشاء مجالس أعمال مصرية فلسطينية لتبادل الخبرات وتنفيذ المشروعات المشتركة، إن هذه الخطوات من شأنها إحياء القضية الفلسطينية وتأكيد ارتباط مصر والمصريين بهذه القضية وفتح الطريق لمقاربات جديدة وتفكير جديد يمهد للدور المصري إزاء القضية الفلسطينية. ويبقي بعد ذلك أن هذه المقترحات لا تمثل سوي بدايات يمكن البناء عليها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد