أهم فارق بين مشاهدة عرض درامى وعرض ينتمى للرقص الحديث، هو الاعتماد على النص، فالأول يعتمد على الحوار وتطور مجريات الأحداث وتصاعدها إلى درجة ما حتى تنتهى الأزمة ونصل لنهايتها. وهى مراحل تنقل إلى حد بعيد رؤى المؤلف مع بعض التأويل للمخرج بحسب رؤيته الإخراجية، بينما الرقص المعاصر يعتمد في الأساس على تجريد الأحداث الدرامية واختيار بعضها لتحويلها إلى لوحات تعبيرية راقصة تغلفها الإضاءة والديكور، ولعل هذا الفارق هو مانح عروض الرقص المسرحى المعاصر خصوصيتها، التى تجعلها جذابة على مستوى الرؤية البصرية أكثر من جاذبيتها الدرامية، ولا أنكر أن صعوبات كثيرة واجهت المخرج مناضل عنتر وهو يقدم نصين من اصعب الروايات، الأولى "مولانا" لإبراهيم عيسى، والثانية "الزينى بركات" لجمال الغيطانى، فكلامهما يكشف ازدواجية الخير والشر داخل النفس البشرية، ولعله اضطر أمام هذه المشكلة إلى تقديم بعض الحوارات بين الشخصيات تسهيلا لمهمة الراقصين في توصيل المعلومات الدرامية للجمهور، وهو ما يعد غريبا على الرقص المعاصر، ورغم هذا فقد منحنا عنتر متعة بصرية لا ننكرها في العرضين اللذين قدمهما في ليلة واحدة بالأوبرا. "حلم البصاصين" تناقش الصراع بين الزينى بركات عزيز مصر وكبير البصاصين زكريا بن راضى، صاحب المهارات الفائقة في التجسس على الناس، وقد قام عنتر بتجريدها إلى أبعد الحدود من خلال ثنائية البيض والأسود، في ملابس الراقصين، ومن خلال خلفية لأشجار جافة تظهر من وراء ستار عبر تقنية "خيال الظل" معتمدا في ذلك على إبراز مهارات راقصية في التشكيل الجسدى، المصاحب لأغنيات صوفية وتراتيل وأغنيات لدينا الوديدى مثل "بعد البيبان"، وهى بالفعل متعة بصرية بديعة لم يفسدها سوى عدم شعور الراقصين بالحوار الدرامى، ومحاولة راقصة البالية ريم أحمد استخدام الحس الكوميدى لتعويض افتقاد الجمهور لتواصلهم مع الدراما. في "مولانا" كان الأمر أكثر إبداعا من خلال تجسيد ملامح الخير والشر في الشيخ حاتم رجل الدين العصرى والمتحول لبوق السلطة، فقد شاهدنا الصراع البشرى الدائر داخل هذا الشيخ متجسدا في شخصين على المسرح، تألق فيه الممثل الشاب طه خليفة، وقرينه الشرير الذى يستغل فيه إبليس ضعفه الإنسانى، للاستجابة لغرائزه الدنيوية، وأبرز عنتر هذا من خلال بعض الرقصات الصوفية، والمزج بين أغنيات صوفية تنتمى لعدة دول تتنوع بين المغرب العربى وشرق آسيا، بحيث تجد نفسك وقد تسربت من بين ضلوعك على بساط حالم تقوده المشاعر، المتلاحقة بين المنمنمات الإسلامية الممزقة التى أبدعها عمرو الأشرف تعبيرا عن حالة الاهتراء الداخلى للشيخ حاتم، في حين اخفقت الإضاءة في مشهد الرقص الصوفى تحديدا حين استخدم الأشرف إضاءة مصاحبة لإضاءة القناديل المدلاة من اعلى المسرح بينما كانت تحتاج لإظلام تام بحيث لا يضيء غيرها، ورغم هذا كانت الإضاءة إلى حد بعيد مرضية ومعبرة عن الحالات الشعورية المختلفة للشخصيات، خاصة في المشاهد التى ظهرت فيها شخصيات رجال الأمن وهم يرتدون ملابس اشبه بملابس فيلم "men in black" والتى خلقت حالة كوميدية بالعرض.. في النهاية فإن فرقة الرقص المعاصر قد خطت خطوة نحو الجمهور العادى لابد ان تحسب له والدليل هو نجاح التجربة في القاهرة والأسكندرية رغم خصوصيتها. لمزيد من مقالات باسم صادق