إنها حقا مأساة تلك التي يعانيها من يضطره حظه العثر إلى المرور بمنطقة بولاق مصر، وشارع 26 يوليو أو الوصول لمنطقة وسط البلد عن طريق السبتية، فالمشهد فى المنطقة أصبح يفوق قدرة الكلمات على الوصف. مابين طوفان باعة الملابس الذين أغرقوا المكان..يفترشون الأرصفة ونهر الطريق ويتحدون قائدي السيارات والمارة بحمالات الملابس ومانيكانات يصل امتدادها إلى الرصيف المقابل، لتكاد المساحة المتبقية تسمح بمرور سيارة واحدة فقط، يجب على سائقها توخى كل أشكال الحذر حتى لا يصدم أي مواطن انتحاري قرر السير على قدميه فى شارع حرم على راوده كل حقوق الطريق. مشهد يضاف إليه سلاسل من سيارات السرفيس، يتعامل سائقوها كأباطرة الشارع بلا منازع، يسيرون ويقفون حيثما يريدون..يعترض أحدهم طريقك أو يدخل فى نزاع مع بعض سائقي التوك توك فى شارع صغير قرروا تحويله لاتجاهين، دون أن يكون لك حق توجيه حتى كلمة لوم أو عتاب، فإن حاولت لن تنال إلا وابلا من الشتائم والألفاظ النابية وقد يتطور الأمر إلى التعدي بالضرب أو تكسير السيارة. فالقانون الذي يحكم هنا.. هو الفوضى..والسيادة للأقوى. خليط من كل شيء..باعة الملابس والفاكهة والمأكولات، سيارات سرفيس..نصف نقل..عربيات حنطور..توك .. وعربة فول وطعمية..وحلوى أحيانا..غير بعض الحمير المتروكة على جوانب الطريق، « سمك لبن تمر هندى» يتسبب على مدى اليوم فى «عجنة» لا مثيل لها كما يطلق عليها الشوام. ليجد المواطن فجأة نفسه فى مفرمة، يستدعى فيها كل مهارات القيادة التي تعلمها، لكن دون جدوى، ويضطر للبقاء ساعات انتظارا لانفراجة تسمح له بالمرور إلى حيث يريد الذهاب. وإذا ما قررت تفادى شارع 26 يوليو وشوارع بولاق الرئيسية والوصول لمنطقة الجلاء عن طريق السبتية. سوف تفاجأ بمشاهد أخرى فى إمبراطورية الفوضى أمام محلات الحديد وقطع السيارات حيث تمتد قطع الشغل ملتهمة الطريق، لتتلاحم السيارات وعربيات الكارو المنتشرة فى المكان بحثا عن أنواع أخرى من الرزق، مع التوك التوك، فى معادلات مرورية شديدة التعقيد، قد يمتد حلها وفك الاشتباك فيما بينها لساعات طويلة، ويتحول بعضها لمعارك بين الأطراف المختلفة. مشاهد فوضى وقبح وتلوث سمعي وبصري، وإهدار لكل الحقوق الإنسانية فى منطقة صارت الفوضى هي القانون السائد فيها. واقع يومي متكرر فى المنطقة يجعل الكثيرين يحاولون تفادى المرور بها لكن ماذا يفعل المضطرون؟ أحمد بكرى، أحد أصحاب محلات قطع الغيار بالمنطقة يؤكد أنه لم يعد يأتي بسيارته لأنه لم يعد يتحمل القيادة فى ظل هذا المولد، بالإضافة إلى فقدانه كثير من زبائنه الذين قرروا البحث عن حاجتهم فى مكان آخر. وبسؤاله كيف يمكن تنظيم المنطقة ومن المسئول عن ذلك ؟ قال: « ولماذا لا نعتبر ذلك تنظيما؟» مشيرا إلى أنه قد يكون الغرض من ترك الحال على ما هو عليه فى منطقة بولاق، هو وجود خط دفاع بشرى فى حالة هجوم المتظاهرين المسلحين على المنطقة كما حدث من قبل وتصدى لهم أهالي بولاق. منطق يردده بعض شباب المنطقة الذين يؤكدون أنهم يبحثون عن أكل عيشهم، ويعترضون على توقيف الشرطة لبعض المخالفين منهم، مشيرين إلى ما قدموا من مساعدات للشرطة من بعد الثورة وحماية المنطقة وقت هروب المساجين والبلطجية وانتشارهم، مرددين هل يكون ذلك هو جزاؤنا؟ كلمات تكاد تعيدنا إلى قلب حارة نجيب محفوظ فى الحرافيش، والتوت والنبوت، وفتوات بولاق، ليقفز السؤال: هل شهامة أهالي بولاق وحمايتهم للمنطقة فى أوقات الخطر، تعنى السماح لهم بضرب عرض الحائط بحقوق الطريق، وتمنح لهم رخصة دائمة لكسر القوانين..وعمل المخالفات دون محاسبة؟ هل يعود عاشور الناجي و فتوات نجيب محفوظ مرة أخرى إلى بولاق، ليكون فرض الحماية فى مقابل استبداد السلطة واحتكار حق التصرف فى المنطقة، دون محاسبة. هل يتحول البطل الشعبي فى مواجهة الإرهاب إلى مخترق للقانون ومعتد على حق الطريق. حسين أبو عميرة، أحد أصحاب المتاجر فى السبتية يؤكد أن أصحاب المتاجر لا يقطعون الطريق ولا يعتدون عليه لكنه يؤكد حق الشباب الذي يعانى البطالة فى أن يسترزق لأن لديهم أسرا وأطفالا «بطون عايزة تاكل» أما الحاج متولي، أحد كبار تجار بولاق، فيرى أن حق أكل العيش لا يعنى الفوضى، وأن المشكلة أصبحت فى سلوكيات الناس. قائلا: « اعتبر معظم سكان المناطق العشوائية والشعبية أن الحرية هي الحق فى الفوضى الكاملة دون مراعاة لحقوق الآخرين. لافتا إلى أن المصريين أمامهم الكثير لفهم معنى الحرية والديمقراطية بعد سنوات طويلة من الفساد والإفساد انعكس على سلوك الناس وأخلاقهم، التي أصابها التردي، وهذه هي النتيجة، مشيرا إلى حال المنطقة. أما أحمد حسين القادم فى زيارة قصيرة للقاهرة من سوهاج، فيبدو غير مصدق للمشهد العبثي الذي آلت إليه المنطقة، ليتدخل فى الحوار قائلا: « لا حل سوى الضرب بيد من حديد لإعادة الانضباط للشارع وتطبيق القانون على الجميع» ومابين حقوق سكان المنطقة والوافدين إليها فى كسب الرزق وحقوق الآخرين فى الطريق والسير فيه وعدم التعرض لأذى، هل تهتم الحكومة الجديدة بالنظر لحال مثل هذه المنطقة وأمثالها، لإيجاد طرق للحل والقضاء على حالة الفوضى والعبث. أم أن الحل هو كما قال أحدهم، أصبح فى تغيير الشعب نفسه؟