يقول تعالي في سورة الرحمن( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) _الرحمن: 1-4- وقال الإمام علي « تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه» . و يقول عبد الرحمن الشرقاوي في رائعته الحسين ثائرا « مفتاح الجنة في كلمة .... دخول النار على كلمة .... الكلمة نور .... وبعض الكلمات قبور». ولعل هذه الجنة و تلك القبور، ما كان يقصده الرسل و الحكماء عندما ميزوا بين مر الكلام و حسنه و فضيلة الصمت. فالكلمة تشهد للإنسان أو تشهد ضده ..و لأن فيما بين السطور ما يكشف المستور و يوضح حقا و يكشف زيفا ،كانت حكايتنا مع كلمات حفظتها أوراق البردي.. ففي خضم ولع الأجانب بالحضارة المصرية القديمة و توالي بعثات التنقيب عن الآثار المصرية في القرن التاسع عشر، تم اكتشاف عدد من البرديات و متون الأهرام المنقوشة علي الجدران الداخلية لخمسة أهرامات جنوب سقارة . و بترجمة و تحليل ما سطره المصري القديم اتضح أنه أبدع الأدب القصصي و الغنائي و السياسي والحكم و الأمثال وأول أشكال الكاريكاتير.. و يشير عالم المصريات جورج بوزنر في «معجم الحضارة المصرية القديمة» إلي عدد من النصوص التي توضح ولع أجدادنا بالفكاهة وإلي كتاب «تعاليم خيتي» لابنه بيبي،الذي يرجع تاريخه إلى الدولة الوسطي ( أي منذ أربعة آلاف وثلاثمائة عام تقريبًا )موضحا أن تلاميذ المدارس في مصر القديمة ظلوا لأكثر من ألف سنة يحفظون منه فقرات كثيرة تتندر على اللص والكذاب والحاكم الظالم. ويشير نفس المعجم و عدد من المصادر الأخرى إلي أن شخصية الفأر الذي ينتصر بالحيلة و يعرفها صغارنا اليوم باسم جيري من وحي قصص و رسوم في النصوص المصرية القديمة .. وقد شهد عام 1852 اكتشاف نمط من الروايات المصرية ، رجح العلماء أن تاريخ تدوينها يعود للأسرة الثانية عشرة . وقد قام عالم المصريات الفرنسي الشهير جاستون ماسبيرو بترجمة نماذج من هذه القصص المصرية القديمة . وفي دراسته لتلك النماذج (وإن كان بعضها غير كامل بسبب تهرؤ البردية أو تدمير الشقفات الفخارية ) يشير ماسبيرو إلي أن كثيرا من القصص المصري القديم له ما يقابله في ألف ليلة و ليلة و حي بن يقظان وسندباد و كليلة و دمنة وروبنسن كروزو وحكايات لافونتين، وأن هوميروس استوحي في الأوديسا قصة الملاح الغريق وتحدث في الالياذة عن مدينة طيبة ذات المائة باب.وقد استخلص ماسبيرو بعض سمات للقصص المصري القديم منها، المزج بين أحداث التاريخ و الخيال (وإن شاب ذلك تداخل في الفترات الزمنية)، وتكرار ظهور شخصيات الملوك والقادة في القصص لإقامة العدل وتأكيد مفهوم الضمير، وذلك في إطار مسلي طريف يبرز تحولات الإنسان والحيوانات الناطقة وقوة السحر.. في هذا السياق، يعرض ماسبيرو لقصة القائد«تحوتي» وقصة الملك الراعي «ابوفيس» الذي أرسل بعثات إلى أمير طيبة سقننرغ ليطالبه بطرد حيوانات فرس النهر من بحيرة طيبة لان صوتها يزعجه. وفي القصتين نلحظ المزج بين وقائع التاريخ المتمثلة في معارك المصريين شمالا، و الصراع بين ملوك الجنوب و الرعاة الغزاة في الدلتا و بين القوة المدعمة بالحيلة التي ابتدعها الوجدان المصري للخلاص من الأعداء، وأن بعض التفاصيل و الخيوط الدرامية في هذه القصص وظفها الأدب الشعبي وظهرت فى عدد من الأعمال المعاصرة مثل كفاح طيبة لنجيب محفوظ . و عندما يعرض ماسبيرو لقصة القائد» تحوتي» الذي أخفي خمسمائة مقاتل في جرار أسفل جدران بابل ليغزوها تتداع للذهن حيلة الأربعين حرامي الذين اختفوا في الجرار ليدخلوا قصر علي بابا... ويشير ماسبيرو في دراسته التي ترجمتها فاطمة عبد الله محمود تحت عنوان حكايات شعبية فرعونية إلي قصة سنوحي التي تُعد أقدم قصة قصيرة في العالم وإلي حكاية الفلاح الفصيح التي تعكس فكرة الضمير الإنساني (الذي قال هنري بريستند في كتابه «فجر الضمير» إنه ولد علي أرض مصر ومنها انطلق إلي كل البقاع علي كوكب الأرض) و اعتبرها ماسبيرو البذرة الأولي لفكرة العقد الاجتماعي التي طورها فلاسفة الغرب في القرن السابع والثامن عشر.. وفي دراسته» المأثورات الشعبية و الهوية المصرية» يشير الباحث خالد أبوالنيل إلى ظهور تجليات حكايات المصري القديم في القص الشفهي المعاصر و في الممارسات ( الرقي والعادات) التي تصل بين مصر القديمة و مصر اليوم .. وهكذا تروي الحكايات وما بين السطور بعضا من سمات حضارة ما نزال نحمل بعضا من ملامحها وخصوصية شخصيتها ..فهل حان الوقت أن نتفهم معني البيان ،نعمة المولي عز وجل ، وأن نستدعي مفردات ضمير حضارة كانت هديا يوم تاه الإنسان في دروب البدائية ، فكانت الكلمة كما قال الشرقاوي «بداية و نهاية وفرقانا بين نبي و بغي »،وسؤالاً... «... وأتعرف ما معنى الكلمة»؟!!.