عندما تسلطت الحاشية علي البلاد وغاب الفرعون.. عندما صم الحاكم اذنيه عن نداءات الشعب واستمع لمن يزيفون له حقيقة الاحوال لم يجد المستشار الحكيم إيبو أور كاتب الفرعون بدا من كتابة رسالة إلي مليكه بعد أن حجبه المتآمرون والمنتفعون من حاشية الفرعون عنه.. قال إيبو أور في رسالته: كل الاشياء الجميلة زالت واندثرت.. لم يبق لنا الا القبح في كل مكان.. الاشياء الطيبة اختفت.. لم يبق حتي قلامة ظفر.. البلاد تدور كدولاب الفخار.. ولايخرج منها الا الاشكال الممسوخة.. فيا سليل اعظم ملوك الزمان.. اضرب بقوة علي رأس الثعبان.. اقض علي الفساد ورد العدل للبلاد. يستلزم الامر خبيرا في المصريات ليفصل بين الحقيقة التاريخية والخيال في برديات محمد سلماوي القصصية العشر الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية. ففي برديته قصته الاولي يفتتح سلماوي الكتاب برسالة إيبو أور إلي الملك بيبي الثاني الذي انتقلت البلاد في عهده من الازدهار والقوة الضاربة الي الضعف والانهيار نتيجة لابتعاد الملك عن شعبه ووضع المتاريس ممثلة في الحاشية والمساعدين غير الامناء بينه وبينهم. قبل ان ينتقل في باقي البرديات العشر بين حكايات الازدهار والاضمحلال التي شهدتها مصر القديمة مرورا بفترات الاحتلال والخيانات والصراع علي الحكم وانتهاء بالسقوط في براثن الاحتلال. يخلط سلماوي علي طول الكتاب بين خياله ومزجه الخاص لاحداث التاريخ ليلقي من خلاله بظلال واضحة علي حاضر مصر ومستقبلها في ظل الحراك السياسي الحالي. ليخفي تخوفاته في ثنايا النص التاريخي الذي يستند فيه الي برديات فرعونية قديمة تشهد علي أن التاريخ يستسلم لتلك المقولة الشائعة التي تتهمه بتكرار نفسه.ليست هذه المرة الاولي التي يلجأ فيها سلماوي لهذه الحيلة في استنهاض التاريخ عبر شخوصه ووقائعه كي يبرز ما لا يرضي عنه في الواقع فقد لجأ في عملين مسرحيين الي تقديم المواجهة بين الشعب والسلطة الفاسدة أو المتسلطة عبر قصة سالومي التوراتية الا ان الجديد في برديات سلماوي التي نشرت مسلسلة باحدي الصحف المستقلة خلال شهري فبراير ومارس المنقضيين قبل جمعها في الكتاب الصادر اخيرا انه لايعمد الي تغيير مسار التاريخ او اضافة حكايات من خياله يجعل منها متنا للحدث التاريخي الذي يتراجع الي الهامش كما في أعماله السابقة بل يبقي التاريخ كما هو دون تدخلات حقيقية في مساره واصوله ليكرس من خلال الحالة السردية والمضامين التي يسعي لايصالها لقارئه وهو ما ظهر خلال التعليقات التي وردت علي قصصه في الموقع الالكتروني للصحيفة التي نشرت بها هذه البرديات القصصية والتي اختار سلماوي ان يصدر بها كتابه عوضا عن المقدمة التقليدية. الا ان الكتاب يحمل لقارئه هدية اخري تتجاوز لغة سلماوي المميزة, وهي لوحات الفنان التشكيلي د. رضا عبد الرحمن الذي وجد في قصص سلماوي المتضمنة في الكتاب فرصة لتوظيف موتيفاته البسيطة المميزة في ثوب مصر تلبس اللوحات المتناثرة علي طول الكتاب في قسمه العربي والقسم المقابل الذي يحوي ترجمة فرنسية لما كتبه محمد سلماوي. حرص رضا عبدالرحمن علي ربط اللوحات بالقصص الخاصة بالمجموعة لتضمن كل لوحة عناصر بصرية ترتبط بالحكي بشكل مباشر الا انه من اللافت ان القسم الفرنسي كانت اللوحات فيه اكثر اكتمالا وارتباطا بالحكايات الواردة في حين شاب القسم العربي من الكتاب سوء القطع للوحات وهو ما يؤخذ علي القائمين بالاخراج الفني كما يبدو باللوحة الموجودة بصفحة62 ورغم الصبغة الواقعية التي تكاد تسيطر علي تناول سلماوي في بردياته قصصه الا ان ريشة رضا عبدالرحمن تنقل جوا اسطوريا يتخلص من وطأة التلميحات الواضحة بالواقع التي خطها قلم محمد سلماوي, فاصطبغت لوحات رضا عبدالرحمن بالوان تجسد الطبيعة البكر للموجودات التي رآها مميزة لمصر من حيث الزرقة المتدرجة للسماء وخضرة النخيل والاصفر الذهبي الذي يكاد يسيطر علي كساء اغلب الشخوص في اللوحات. دون ان يتناسي احالة النقوش الفرعونية المجردة التي يستلهمها في لوحاته الي كائنات عامرة بالحياة والحركة ليحدث تواصلا في استنهاض التاريخ بين ما يرسمه وما يخطه الكاتب الكبير محمد سلماوي.