كلما تنفس الصبح ...و تراءت لنا صفحة مياه النيل تتهادى بين ضفتيه بدت لنا تلك الأحراش المستقرة حول النهر لزمن طويل. ورغم كل امتداداتها الا أنها تراجعت مرغمة لتفسح المكان أمام زهرة اللوتس و شجر الصفصاف والجميز و نخيل الدوم والسبع حبات المصرية و تلك السكينة التى تعرفها أرض مصر الخضراء العفية الممتدة على مدد الشوف. فقد تحالف كل شئ ضدها,تلك الأحراش البرية, حتى نهر النيل صاحب الكرامات الخاصة ونسمة العصارى التى لا تعرف بردا قارسا ولا حرا شديدا و هذا النوع من البشر الذى حلم منذ البداية بالاستقرار. وأما أكبر تحد فكان فى وجود بيت يمنع توغل مثل هذه الاحراش نعتبره منحة خاصة من الرب الإله إلى أرض محروسة اختار لها سبحانه وتعالى اسم مصر. فمصرمنذ بدايتها هى البيت الذى رحب بكل ساكنيه فأصبح الجميع يتحركون ويعيشون فى طمأنينة بعد أن علمتهم أبوة النيل وأمومة الأرض حكمة البناء والاستقرار فذهبوا يبحثون عن وحدة و أسلوب حياة خاص بهم فى أول فرصة ممكنة. بالتأكيد هذا هو التعبير الذى أبحث عنه. ..ففى أول فرصة ممكنة بنت مصر البيت لتصبح أمة ويصبح سكانها شعبا. فعندما كانت الدنيا لاتزال تعيش فى عصرها الحجرى كان أهل مصر يستقرون داخل منازل ويضعون الغذاء فى سلال ويفترشون حصيرا من الجلود بعد أن فهموا مبكرا معنى الحياة والموت حتى أن من يرحل عن الحياة كانوا يوجهون رأسه نحو القرية ويدفنون معه أدوات من النحاس و دمى من العاج والطين. وتشيد الجدران لتصبح رواسى كالجبال، تجسد حضارة مصر , أول أمة بالمعنى الصحيح وأول دولة بالمعنى السياسى الكامل. ولهذا كان من الطبيعى أن يكتمل أول بيت كبير فى منف عند رأس الدلتا بعد أن توحدت مصر وشاع بين أهلها نوع من المصارحة حول دور الفرعون الحاكم أو» برعو»ويعنى البيت الكبير , و مهمته المحددة هى قيادة الشعب و تطويع ماء النيل وزراعة الأرض وحراسة بر مصر و حماية العبادات. فعندما وحد مينا القطرين جاء بالنظام الذى يحكم به البيت, فأعلن قانونا عاما للبلاد من وحى تحوت رمز الحكمة و أسس عاصمة للحكم ورأى انه من بين مهام الحاكم تعليم الناس شيئا مفيدا. فقد كان على الحاكم المصرى وقتها أن يقدم للمحكومين شيئا جديدا يضاف إلى رصيد حياتهم وهو ما فعله مينا عندما أدخل للبلاد وسائل النعيم والحياة المترفة بعد أن علم الناس استخدام المناضد والأسرة داخل منازلهم. الحاكم لم يكن الأقوى جسدا على طريقة الشعوب الهمجية ولكنه فيما يبدو كان الأكثر فهما وبصيرة بأحوال البلاد والعباد. ولان الحياة فى مصر ومنذ البداية لها منظومة واحدة فنجد سعة فى صدر الحاكم وقبولا لدور العالم والمبتكر. ولهذا لم تكن اعظم شخصية حقيقية عرفها التاريخ بجانب الحاكم سوى شخصية امحوتب الطبيب والمهندس كبير مستشارى الملك زوسر. وكان له على الطب المصرى من الفضل ما جعل الأجيال التالية تتخذه رمزا للعلم والفنون.كما أنه فى الوقت نفسه هو من أوجد طائفة المهندسين التى أمدت أسرة بناة الاهرام بأعظم البنائين فى التاريخ. و تقول الرواية المصرية إن أول بيت من الحجر قد اقيم بأشرافه- حسب تأكيد المؤرخ وول ديورانت فى قصة الحضارة- و انه هو الذى وضع تصميم أقدم بناء مصرى قائم إلى هذه الأيام و هو هرم سقارة المدرج. وهكذا قام البيت على مبدأين أولهما الخاص بالتشييد والإعمار و ثانيهما المعنى ببناء الإنسان . وبهذا الأسلوب بزغ فجر الحضارة والتقدم على أرض مصر، كما يقول عالم الآثار الكبير د. عبد الحليم نور الدين وبزغ معها فجر الضمير الذى كان أمل المصرى فى الصعود إلى عالم الخلود حيث لا ينفع زمان ومكان... فكل ما نحتاجه للوصول إلى البيت الدائم المستقر هو العمل الصالح والضمير الطاهر. فالحياة فى بر مصر لم تكن طرفة أو رحلة استمتاع يقوم فيها كل إنسان بالتصرف فى شئونه بالشكل الذى تمليه عليه رغباته ، فالقانون والنظام انما وضعا فى الحياة الدنيا ليحفظا ماء الوجه فى الحياة الابدية التى يرى فيها كل إنسان ثمرة كفاحه, تماما كفكرة الزراعة فى الأرض الأرض التى تستهلك منا الوقت والمجهود حتى تأتى الثمرة وينجح الفلاح صاحب الارض. ويستمر البيت وسكانه ولا تتبدل المعادلة حتى بعد أن جاء غزاة يحاولون هدمه فى فترات نعاس أهله الذين حتما يستيقظون ليطردوهم حتى ولو استمروا لسنوات وسنوات. فيذهب الهكسوس والاشوريون والفرس والرومان دون أن يضيف أى منهم إلى البيت . صحيح أن مكان الحاكم قد يتغير من منف إلى طيبة إلى الاسكندرية إلى الفسطاط ثم القاهرة الا أن البيت نفسه لا يتغير. فالبيت الذى كان يضم المعابد الفرعونية هو نفسه من احتضن صوامع وكنائس وأديرة أقيمت على حافة الصحراء هربا بمذهب المصريين المسيحى اليعقوبى من الاضطهاد والقتل و التعذيب الذى حدث فى عهد دقلديانوس والذى طال العباد فى البلاد المصرية فأصبح تاريخهم هو تاريخ الشهداء. ففى ذلك الزمن أصبحت الكنائس صاحبة قباب و الرسوم القبطية على كل ورقة ونسيج, ليأتى الاسلام فاتحا ويبنى مسجدا يستلهم الروح المصرية ويجعل من فنار الاسكندرية ملهما لمنارة المسجد . ويمتد العمران وتتجاور العائلات ويمتد البيت إلى سبعة طوابق. وينبهر العرب بما رأوه فى بر مصر حتى أن خارجة بن حذافة أحد الجنود الفاتحين يسأل عمرو بن العاص ان يكاتب الخليفة عمربن الخطاب، كما يقول د. عبد الرحمن فهمى- ليطلب منه السماح له بأن يبنى غرفة فى الطابق الثانى. ويأتى رد الخليفة بالايجاب شريطة «مراعاة عدم إمكان أى رجل من التطلع من كواها وهو فوق سريره إلى المنازل المجاورة وإلا هدمها». ويستمر الحال و يتأكد العنوان العريض للبيت, الخاص بسعة العيش ودوام القوت و السبع حبات التى يحتفظ بها المصريون حتى فى أقصى أوقات الشدة وتحاريق النيل , حتى يأتى زمن محمد على والخديو إسماعيل ومن بعدهما عبد الناصر فيستلهمون نفس فكرالحاكم الذى لابد أن يقدم الجديد إلى أهل البيت الذى أصبح منهم المهندس والطبيب والجندى والمفكر. فطالما ظل المصرى قابضا على قلمه وفأسه يظل امحوتب المهندس والطبيب حالة متكررة فيظهر علماء فى قامة على مبارك ومصطفى مشرفة . ويصبح لطفى السيد ونجيب محفوظ ويحيى حقى و يوسف إدريس نسخة أخرى من الكاتب المصرى. ولا غرابة ولا عجب فى كل ما حكينا . فالبيت سيبقى متينا باسقا كالنخل ناظرا إلى السماء مهما تتابعت السنوات ومهما حدث طالما أيقن المحكوم أنه جزء من عبقرية المكان وأنه مثل أجداده يعيش بصبر الفلاح وحكمة الأيام . وطالما فهم الحاكم أن مهمته رعاية الزرع والنيل واستقرار الاحوال والعباد . فالحاكم لا يكون حاكما ولا مصريا إذا لم تكن لديه الفكرة والمشروع , تيمنا بذلك الحاكم القديم الذى يقسم أمام محكمة العالم الآخر بأنه فى عهده لم يعش ببر مصر جائع أو ظمآن.