فى معركة " القديم والجديد " التى ثارت بين كتابنا من رواد النهضة الثقافية والفكرية فى النصف الاول من القرن العشرين ، وجه الاستاذ مصطفى صادق الرافعى – الذى كان نموذجاً فى المحافظة على النسق التقليدى القديم – نقداً عنيفاً إلى الاستاذ سلامة موسى االذى كان نموذجاً فى الدعوة إلى الاقتصار فى التجديد على الثقافة الغربية – وكان فحوى هذا النقد أن “ سلامة موسى “ قد اتخذ جميع اساتذته الذين أشاد بفضلهم ، وأعلن انه تعلم منهم من مفكرى الغرب وعلمائه وكتابه ، فلم يذكر اسما واحدا من مفكرى تراثنا العربى ، وكان رد سلامة موسى اشد عنفاً وقسوة وحمل كثيراً من الاحباط لأصحاب النظرة الموغلة فى المحافظة الحريصة على الارتداد الى الماضى ، وكان مضمون هذا الرد انه لم يجد فى تراثنا العربى كاتباً او عالماً لديه فائدة تذكر ليتعلمها فيستحق أن يجعل منه استاذا له . هذان طرفان نقيضان ، ولكنهما لا يعبران عن الاتجاه العام الذى كان غالباً على رواد نهضتنا الثقافية الاوائل ، فهؤلاء الاعلام الذين تزخر بهم حياتنا الثقافية فى تلك الحقبة لم يجرفهم الانحياز الى أحد النقيضين ، بل كانوا مع سعة اطلاعهم على الثقافات العالمية ذوى وعى كبير بثقافة التراث ولست مبالغاً اذا قلت بان وعيهم بهذا التراث كان اعمق واشمل من وعى اولئك المتطرفين الذين يزعمون بانهم وحدهم انصار التراث ، وان وعيهم بالثقافات العالمية كان اعمق وادق من المتطرفين الذين يزعمون بانهم دعاة الحداثة الغربية او التجديد على النسق الغربى وحده . صحيح انه كانت هناك معارك ادبية تثير غباراً كثيفاً او غباراً خفيفاً بين هؤلاء الرواد انفسهم ولكنهم مع ذلك كانت تجمعهم قاعدة واحدة متوازنة بين الاصالة والتجديد فعلى سبيل المثال نجد ان الدكتور طه حسين كان متاثراً بالثقافة اللاتينية بينما كان الاستاذ العقاد متاثراً بالثقافة السكسونية ومدافعاً عنها وقد دارت معركة ساخنة بينهما عرفت بمعركة السكسونية واللاتينية ومع ذلك لا نرى احداً منهما قد انفصل عن التراث او ابدى قطيعة معرفية نحوه وتشهد بذلك مؤلفاتهما والمقالات العديدة التى كتباها وكتبها غيرهم من الكتاب عن عظماء التراث فى الدين والادب والفلسفة وغيرها . وقد اعترف عبد الرحمن شكرى فى معركته الجدلية مع محمد احمد الغمراوى بك ان التجديد الذى دعت اليه مدرسته الادبية انما هو حركة رجعية ، ويقول نصاً “ لا يدهش احداً اذا عددنا ما يسمى بنزعة التجديد نزعة رجعية فى اولها” والرجعية هنا لاتعنى ذلك المعنى المذموم الذى اطلقه ونشط فى ترويجه ضباط ثورة يوليو 1952 ازدراء للعهد الملكى السابق ، وانما تعنى فى لغة “ عبد الرحمن شكرى “ الرجوع الى الأصول الصحيحة قبل ان تدخل على ادابنا ظواهر التكلف والتزييف . هذا التجديد الذى قام به رواد نهضتنا الثقافية الاوائل كان يتحرك الى الامام فى تطور دائم سواء فهمنا التطور بالمفهوم الجدلى او بمفهوم حلقات الشجرة النامية نحو المستقبل الدائم . وهو تجديد يقوم على اصول صحيحة ، وعلى بصيرة ورؤية ناضجة لانه يعتمد على الفهم والتعارف والتفاعل مع الثقافات العالمية ولا يقوم على الانغلاق والصراع والتقاتل كما يفهم المتطرفون من الجانبين . ولذلك كان اختيار روادنا من ثقافة الغرب اختياراً راشداً اى انهم كانوا يدققون فى الانتقاء والاختيار بحسب الحاجة القومية كما يقول اساتذة الادب المقارن ، فهو ليس اختياراً عشوائياً او تقليداً يتجاهل او يجهل ملابسات الواقع وامال المستقبل فهم يعرفون ماذا يأخذون من ثقافات الامم الاخرى وماذا يدعون ، ويعرفون مواضع النقص فى ثقافتنا ويحددونها كما يحدد الطبيب الماهر مواطن الداء الذى قد يحتاج فى علاجها احياناً الى استيراد بعض انواع الدواء ، ويعرفون كيف يفيدون من المناهج الغربية فى تفسير جوانب من التراث غامضة واعادة فهمها ويعرفون كيف ينفضون مفكرى الغرب انفسهم فى ثقة وندية وهكذا كانت نظرتهم فى جوهرها نظرة ملائمة للطبيعة المصرية فى اعتدالها وتوازنها بين الاصالة والتجديد وربما نظر بعض نقادنا اليوم نظرة تقييمية لجهود اولئك الرواد فراى جانب الاصالة والمحافظة فحسب ان حماستهم للتجديد قد توقفت ولم تتواصل او نظر نقاد اخرون فرأوا حركة التجديد القوية العميقة فى نتاجهم فظن انهم كانوا رسل الثقافة الغربية ، وانهم اعادوا تفسير التراث بما يلائم تلك الثقافة التى كانوا دعاةلها وكلتا النظرتين مجانب للانصاف بعيد عن الموضوعية . فنحن يجب ان نبتعد عن الاحكام التعميمية والمواقف المتحجرة عند اصحاب الاتجاهين . فلسنا من الناحية الثقافية فى خصومة دائمة ، ولاخصومة مؤقتة مع ثقافات غيرنا من الشعوب ولسنا فى قطيعة مع التراث ومسئولية اجيالنا الحاضرة ان تواصل ما بدأه اولئك الرواد من حركة التعارف والتفاعل لا الخصومة والتقاتل فتلك سنة الله فى خلق البشر حين جعلهم امما وشعوباً ليتعارفوا ويتبادلواً الثقافات اخذا وعطاء استاذ الأدب والنقد المساعد بكلية الدراسات الاسلامية - جامعة الازهر لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل