حفظ النفس من أجل مقاصد الشريعة على الإطلاق، ولأجله جاءت عشرات الأحكام والفروع الفقهية التي تحقق ذلك، ولم يأت الشرع الشريف فقط بحفظ النفس، بل جعل حفظ النفس مفتاحا لعشرات الإجراءات والخطوات التي تسعى إلى إكرامها وتوقيرها وإحيائها وتبجيلها، حتى قال الله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (سورة المائدة، آية 32)، فأطلق القرآن الكريم بهذه الآية المحورية مبدأ إنسانيا عالميا، وقانونا عاما، وشعارا شريفا، بأن إحياء النفس ينزل في الجلال والأهمية الملحة منزلة إحياء نفوس الناس جميعا، وأن إيذاء تلك النفس وإزهاقها وقتلها ينزل منزلة قتل الناس جميعا، وصارت هذه الجملة القرآنية (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) حكمة سائرة، ومكونا عميقا وراسخا من مكونات العقل المسلم، يصنع نفسية الإنسان، ويبني منظومة قيمه وتصرفاته على أساس هذا التوقير والشعور الراسخ بمدى الأهمية البالغة لإحياء النفس الإنسانية والحفاظ عليها، وليس المراد هنا النفس المسلمة فقط، بل مطلق النفس الإنسانية البشرية، من مسلم أو مسيحي أو يهودي أو غير ذلك، فأي نفس إنسانية على الإطلاق فهي جديرة بالاحترام، توقيرا لخالقها سبحانه، وقد أمرنا الشرع بإحيائها وحفظها، حتى روى البخاري ومسلم في الصحيحين أن ابن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الذمة، فقالا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: (أليست نفسا؟!!)، وإحياء النفس يتحقق بخطوات، منها صونها من القتل والأذى، ومنها توفير متطلبات الكرامة والحياة اللائقة، ومنها تنويرها بالعلم والمعرفة، وتحريرها من قيود الجهل والمرض، ورفع الحرج عن تلك النفس في سائر وجوه حركة الحياة، والمسارعة في كل الإجراءات والتدابير التي من شأنها توفير الحياة الكريمة الآمنة، فإحياء النفس وحفظها من القتل والإزهاق وإراقة الدماء هو خطوة تأسيسية تترتب عليها إجراءات متصاعدة، من الإكرام والرعاية والتعليم والإبانة والهداية والتهذيب، هكذا جاء الشرع، وهكذا جاءت الأحكام الهادية من أنبياء الله ورسله، حتى صار من مكونات عقل الإنسان المسلم شدة التعظيم والحفظ للنفس الإنسانية، وقد زاد الشرع ذلك تأكيدا وتثبيتا حين حذر تحذيرا شديدا من إراقة الدماء، فروى البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا)، وكان ابن عمر يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه)، وروى البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)، والعقول الراقية الراشدة، هي التي تأخذ على عاتقها البناء والإحياء والرخاء للنفس الإنسانية، ومن أراد التقرب إلى الله تعالى والأخذ بشمائل هذا الدين، فليضع في برنامج حياته وأولوياته أن يعمل على إكرام الإنسان، وإدخال الرخاء والسرور عليه، وانتشاله من كل الضرورات الخانقة التي تثقله وتؤلمه، وتحرير عقله من الأوهام والخرافة، ولابد لنا في هذه المرحلة من تنشيط كل البرامج والمؤسسات الخيرية المعتمدة التي تعمل على رفع الحرج عن الإنسان، والتي تنتشر في سائر أرجاء مصر وغيرها لعلاج المرضى، وتسديد ديون الغارمين، وإيواء المشردين، ورعاية أطفال الشوارع الذين لا مأوى لهم، فأي مؤسسة أو شخص يسعى في مثل ذلك، فإنه يأخذ بطرف من أنوار قوله سبحانه (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، وله مني شخصيا، ومن مؤسسة دار الإفتاء كلها خالص التقدير، وأشد على يده، وأدعوه إلى بذل المزيد من الجهد في هذا السياق، وأدعو كل المقتدرين للإسهام معهم في ذلك، وفي الختام فهذا نداء أتوجه به إلى العالمين، وإلى مختلف الشعوب والثقافات، وإلى الدنيا كلها، في مختلف قاراتها ودولها، وإلى كل المنظمات والمؤسسات الخيرية العاملة على خير الإنسان، وإلى كل مناطق الصراعات والاقتتال في العالم كله ومن يؤججونها ويشعلونها، بأن يستنيروا جميعا بهذا المبدأ القرآني الإنساني العظيم (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). لمزيد من مقالات د شوقى علام