مهما اجتهدت فى تفسير أسباب إقالة أو استقالة حكومة الببلاوى، فلن تجد أمامك سوى مبرر واحد، تقودك إليه معظم الطرق السياسية، وهو امتصاص غضب الجماهير، الذى تصاعد مؤخرا، ومحاولة «فش غلهم» فى الببلاوى ووزرائه. فقد كنا نتوقع تعديلا وزاريا محدودا، بسبب خلو بعض المقاعد، لكن أصبحنا ننتظر تغييرا كبيرا يشمل عددا من الحقائب الاقتصادية والخدمية، بشكل قد يفضى إلى ارتفاع حدة الغضب، بدلا من الهدوء، والمزيد من الارتباك، بدلا من الحبو نحو الاستقرار. وإذا كانت الاستقالة أو الإقالة حملت اعترافا ضمنيا بالفشل، فإنها وضعت على كاهل رئيس الحكومة الجديد عبئا كبيرا، لأنه مطلوب منه تحاشى تكرار الفشل وتحقيق النجاح، وسط قائمة طويلة من الأزمات. لذلك، فمن أوحوا للببلاوى، أو طلبوا منه الاستقالة، أملا فى إطفاء نار الإضرابات العمالية، وتطويق المظاهرات الفئوية، والحد من الغليان الناجم عن الأزمات الاقتصادية، وقعوا فى خطأ مزدوج. الاعتراف بعدم الكفاءة الإدارية للحكومة المستقيلة، بعد حوالى ثمانية أشهر من توليها، والإيحاء أن من سيتبوأ هذا المقعد يملك «عصا سحرية» لتجاوز المشكلات المصرية. وبالتالى، مطلوب وقف التدهور فى القضايا السابقة، وتحقيق إنجازات فى كثير من الملفات الشائكة، الحالية واللاحقة. وهذا خطأ يضع على كاهل محلب ورفاقه أعباء معنوية، فى لحظة معينة يمكن أن تتحول بسهولة إلى أزمات مادية. السعى إلى الانسياق وراء مشاعر الجماهير الغاضبة، يذكرنا بعصر حسنى مبارك، عندما كانت تحدث مشكلة مدوية يضحى بكبش فداء من الوزراء، وفى بعض الأحيان بالحكومة كلها، أو يتفنن فى شغل الناس بأحداث، اجتماعية وكروية وفنية مثيرة، ثم سرعان ما تهدأ العاصفة حول أزمة أو أكثر متراكمة، ويعود الناس لجدول الأعمال اليومى المشحون بالأعباء والمشكلات. وقد تكون استقالة إقالة الببلاوى حققت هذا الهدف خلال الأيام الماضية، ويضاف إليها بضعة أيام قادمة حتى يكتمل تشكيل الحكومة الجديدة، لكن فى النهاية سيعود الناس أيضا إلى همومهم الحياتية، غلاء أسعار، وإضرابات ومظاهرات، وتوتر أمنى، وتخبط سياسى، واحتقان فى نفوس الشباب، ممن يرونهم كل مساء على الشاشات، وكأنهم احتكروا الفضيلة وأوتوا الحكمة على كبر. ويظل لسان حال الشباب «يتمتم» كيف جاء الببلاوى ولماذا رحل؟ وعلى أى أساس جاء المهندس إبراهيم محلب ومتى سيرحل ؟ نعم قدم الدكتور الببلاوى عريضة بالظروف الصعبة التى مرت بها حكومته، لكن بدا فى كلامه يطرح الشىء ونقيضه. فهو أشار عابرا إلى الإنجازات، وتوقف كثيرا عند الإخفاقات والصعوبات. وتحدث عن مواءمات الداخل، ولم يتجاهل تعقيدات وحسابات الخارج. ونوه إلى الآفاق الهائلة للتقدم، وألحقها بقائمة طويلة من المخاطر. المهم أن التشريح، أو كشف الحساب القصير، الذى قدمه الرجل للأمة يقول، إننا أمام حفنة خطيرة من المصاعب، وأى رئيس للحكومة سيكون محاطا بتضاريس وعرة، ومنحنيات قاسية، مهما نجح فى تقديم حبوب مبتكرة من المسكنات الشعبية. فالوضع القائم يتطلب نفسا طويلا، والحكومة الجديدة أسابيعها معدودة. والجماهير لم تعد تقبل بأنصاف حلول لمشكلاتها، لأن عقلها الباطن والظاهر لا يستوعب أن الحكومة غير قادرة على حلها كاملة، فعندما تخرج مظاهرات أو يتم التلميح إلى إضرابات ممتدة، ويبدع المسئولون فى البحث عن تفاهمات، فتوقع المزيد من عدم الرضاء والشغب والقلق. الواقع أن المهندس محلب يبدأ المباراة وفى مرماه هدفان على الأقل. أحدهما، المشكلات التى خلفتها الحكومة السابقة، وكان عضوا بارزا فيها. والآخر، تحقيق تقدم ملموس فى الملفات العاجلة، وتجاهل الفترة الزمنية التى سيمضيها فى أرض الملعب، فقد جرى تسويقه على أنه رأس حربة وهداف من طراز فريد، أو «منقذ»، ومن صفات «المنقذ» تحويل الهزيمة إلى مكسب، قبل انتهاء المباراة. وإذا نجح أو فشل فى مهمته، فسوف يضع الرئيس القادم فى موقف حرج. فالنجاح فى وقت قياسى، سيحوله إلى نجم شباك، فى وقت تندر فيه النجوم. والفشل فى تلبية أمنيات الناس، بما يتناسب مع سقف تطلعاتهم، لن يتحمل الرجل مسئوليته وحده، بل سيكون خصما من رصيد السلطات الحاكمة، ويدمغها بتعمد الإرباك والعشوائية، والإضرار بمصالح العباد، والتأثير سلبا على نخبة سياسية واقتصادية، كان من الممكن أن تترك بصمات إيجابية لو عملت فى حكومة طبيعية. هذه النتيجة، تؤكد خطورة تبنى سياسة إرضاء الشارع فقط، ففى هذه المرحلة من الصعوبة تكسب ود الجماهير، وأى تصرف يتخذه مسئول كبير أم صغير، بغض النظر عن حسناته، لن تجد عليه إجماعا أو حتى توافقا، فالناس تعودت على الاعتراض. تارة، بذريعة أننا لا نزال نعيش أجواء ثورة، ما يعنى أن كل شىء مباح. وتارة أخرى، بسبب تحريض بعض القوى السياسية على الرفض والاحتجاج. وبالتالى فمنهج امتصاص التوتر وتفريغ شحنات الغضب لم يعد مجديا فى هذه الأجواء. ومن تصوروا أن خروج الببلاوى ودخول محلب، سيؤدى إلى هدوء الأوضاع، فهم على خطأ، لأن الأزمة متفاقمة، ولا علاقة لها بالأيدى المرتعشة أو القابضة على الجمر. فالناس تريد رؤية تقدم حقيقى على الأرض، والجماهير لن ترضى أبدا بأى مراوغات أو مناورات سياسية. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل