فى غضون أسبوع واحد فقدت ساحة الكلمة العربية فارسين لبنانيين ترجلا، كان أولهما "جوزيف حرب" الذى سطع نجم كلماته مع صوت فيروز والرحبانية، وثانيهما "أنسى الحاج" عنوان قصيدة النثر العربية. لم يلتقط المعزون أنفاسهم ولا تضاءلت أحزانهم التى لازمتهم منذ وفاة حرب، التى تزامنت وتدهور حالة "الحاج" الذى عانى من سرطان القولون وافتقده قراء مقالاته فى "النهار" اللبنانية لشهور قبل الرحيل. أخيراً حسم المرض معركته، وحصل على الغنيمة جسدين ناحلين تركا خلفها ميراثا من الشعر الذى يحيا فى صدور المحبين، ومن بينه رثاء "الحاج" لنفسه: لن أكون بينكم لأن ريشةً من عصفور فى اللطيف الربيع ستكلّل رأسي وشجر البرد سيكويني وامرأة باقية بعيداً ستبكيني وبكاؤها كحياتى جميل رحل "الحاج" الذى لم يركض وراء جائزة قط ولا لقب، ولم يحتمل ضيق الحياة: ما عدت أحتمل الأرض فالأكبر من الأرض لا يحتملها ما عدت أحتمل الأجيال فالأعرف من الأجيال يضيق بها ما عدت أحتمل الجالسين فالجالسون دُفنوا و"الحاج" (1937 – 2014)، هو صاحب ديوان "لن" الأشهر فى الأدب العربى المعاصر، والذى صدَّره بمقدمة كانت بمثابة بيان حول رؤيته لقصيدة النثر، وكان مما كتبه: "لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أى قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز (أو الاختصار) التوهج، والمجانية. فالقصيدة، أى قصيدة، كما رأينا، لا يمكن أن تكون طويلة، وما الأشياء الأخرى الزائدة، كما يقول "بو"، سوى مجموعة من المتناقضات. يجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفر عنصر الإشراق، ونتيجة التأثير الكلى المنبعث من وحدة عضوية راسخة، وهذه الوحدة العضوية تفقد لازمنيتها إن هى زحفت إلى نقطة معينة تبتغى بلوغها أو البرهنة عليها. إن قصيدة النثر عالم بلا مقابل". تلقى "أنسى" ابن الصحفى والمترجم اللبنانى "لويس الحاج"، علومه فى مدرسة "الليسيه" الفرنسية ثم فى معهد الحكمة فى بيروت، وبدأ ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد منذ 1954 فى المجلات الأدبية، قبل أن يدخل عالم الصحافة اليومية عام 1956عن طريق جريدة "الحياة" ثم "النهار"، التى استقر بها حيث حرر الزوايا غير السياسية لسنوات، ثم حوّل الزاوية الأدبية الى صفحة أدبية يومية، وفى عام 1964 أصدر "الملحق" الثقافى الأسبوعى وظلّ يصدره حتى عام 1974. وفى 1957 ساهم الحاج مع يوسف الخال وأدونيس فى تأسيس مجلة"شعر", قبل أن يصدر ضمن إصداراتها فى 1960ديوانه الأول "لن"، الذى تلاه "الرأس المقطوع" 1963، "ماضى الأيام الآتية" 1965، "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975، «الوليمة » 1994, وله كتاب مقالات فى ثلاثة أجزاء هو "كلمات كلمات كلمات" 1978، و "خواتم" فى التأمل الفلسفى والوجداني. ترجم الى العربية منذ 1963 عددا من المسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وغيرهم، وقد تُرجمت بعض قصائده الى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والبرتغالية والأرمينية والفنلندية. لقد غاب "أنسى الحاج" بعد أن بشَّر بهذا الغياب: الشاعر هو المتوحّش ليحمى طفولتنا الملحّن هو الأصمّ لكى يُسمِع المصوّر هو الأعمى لكى يُري الراقص هو المتجمّد لكى نطير. لا يَحضر إلاّ ما يغيب ولا يغيب إلاّ ما يُحضِر. فلأغبْ فى شرود المساء فلتبتلعنى هاويةُ عينيّ!…