يمكن تلخيص التجربة التعليمية العريقة والممتدة للأزهر الشريف، فى أنها مسيرة حافلة بالخبرات المعرفية فى صناعة العقل وتدريبه على التفكير المستقيم، حيث حشد الأزهر عددا من الدوائر العلمية، ومهارات التدريب والتمرس بالأدوات العلمية التى لابد منها فى الفهم، مع جوٍّ علمى حافل بالطلاب الوافدين من مختلف الأجناس، مع انتظام حركة التدريس فى حلقات متجاورة، عامرة بألوف من طلبة العلم، مما يشيع جوا من التنافس، ويحرك الهمم، كل ذلك مع اجتذاب العلماء الكبار، ذى الخبرة العلمية النادرة، والوافدين من أقطار مختلفة، رغبة منهم فى النزول فى ساحة الأزهر، بكل ما يمثله من بريق علمى ساطع، ومنزلة رفيعة بين المدارس العلمية المنتشرة فى المشرق والمغرب، كانت كل تلك العوامل بمثابة تحضير وتمهيد لوجود متطلبات قيام عملية شديدة الدقة والتخصص فى صناعة العقل، وتزويده بالعلوم والمعارف والمهارات، ومناهج البحث، وطرق التفكير، وكيفيات التطبيق، مما يؤدى حتما إلى صناعة عقول طلاب العلم فيه، على نحو يجعلها مؤهلة لإنتاج الحكمة، والخروج إلى الناس بالبصيرة، والقيام بتعليم الناس والاحتكاك بهم، فيجد الناس فى قربهم الاستفادة، والتهذيب، ويكتسبون من مخالطتهم جمال الشرع وأنواره وأخلاقه، والوعى بمقاصده، وقد كانت هناك عدة أُطُر ومحددات وضوابط يحرص عليها الأزهر حرصا شديدا فى عملية صناعة العقل، نذكر منها: أولا: شدة الإدراك لطبيعة الشرع الشريف ومقاصده، من خلال العلوم التى يتعلمها طالب العلم، وبالطريقة المنهجية التى يتم انتهاجها فى تدريس تلك العلوم، مما يتوصل به الطالب إلى منظور موزون وصادق لطبيعة الشرع الشريف فى منظومة عقائده وأحكامه وقواعده ومقاصده ومناهج فهم نصوصه، وكيفية سريان معانى الرحمة العامة من خلاله إلى البشر أجمعين، مع شدة الحرص على الهداية، وجمال السلوك الاجتماعي، بحيث لا تغيب تلك الكليات والمثل العليا عن عقل طالب العلم وهو يتدرج فى عملية التعليم، بل لا تزال تلك المقاصد العليا تتكشف له بالتدريج من خلال دوائر العلم التى يدرسها، وعند غياب هذا الإطار فإن صورة الشرع الشريف تتحول فى الذهن إلى الاستعلاء والتسلط على الخلق، ووضع مقاصد مخترعة، تضيع معها المقاصد الأصلية للشرع، وتحول صورة الشرع الشريف أمام العالمين إلى صورة قاتمة تصد الناس عما فى هذا الدين من سعة ورحمة وهداية. ثانيا: التكامل فى أدوات المعرفة، حيث كان الأزهر يحرص على تزويد طالب العلم بعدد من العلوم، تم انتقاؤها بحيث تحقق المقصود، وتصنع رؤية علمية نهائية عند الطالب، تجعله قادرا على رؤية الشرع كما هو، وكما أنزله الله، فكان الأزهر ينتقى لطلابه اثنى عشر علما، يتعلمها الطالب ويتقنها فى مدة زمنية طويلة، حتى يرتوى بها الذهن، ويقدر على استعمالها فى فهم الوحي، وتنزيل أحكامه على الواقع، وعند غياب تلك العلوم المتعددة، ويدخل الشخص إلى فهم الشرع بدون تلك العلوم فإنه يشبه حينئذ شخصا يحاول الصعود إلى السطح بدون سلم، أو فتح الخزائن المحصنة بدون امتلاكه لمفاتيحها. ثالثا: الوعى بالواقع، ومعرفة مكوناته، وما يجرى فيه من أفكار وأحداث ومناهج، وطرق معيشة، وأعراف متغيرة، تتغير بإزائها الأحكام الشرعية بحسب تغير الواقع الذى تعالجه، فكان الأزهر حريصا على لفت النظر إلى شدة الانتباه إلى مدى ما يطرأ على الواقع من تغيرات، تتحرك بالتوازى معها الأحكام الشرعية من حكم إلى حكم، وبدون ذلك يقع خطأ فادح، ألا وهو أن يقوم الشخص بالانطلاق إلى قراءة الأحكام من الكتب، ثم المسارعة إلى إيقاعها على الواقع، دون تدقيق فى المحل الذى يتنزل عليه الحكم الشرعي، وهو غافل عن هذه العملية الدقيقة من تحرى مطابقة المسألة للواقع، أو مقدار التغير الذى طرأ على واقع الناس مما يقتضى التحرى فى الحكم الذى يشمل الواقع، فيحدث بسبب الغفلة عن هذه المنهجية أن يخرج الشخص على الناس بأحكام مغايرة لواقعهم، حتى يجعل الناس فى حرج واضطراب، ولا شك أن بناء العقل بهذه الطريقة على رأس أولويات العمل التعليمى المنهجي، ويجعل العقل منتبها إلى كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع، فتظهر حكمة الشرع ومحاسنه، وهذه القضية التى نتكلم عنها، والتى هى شدة الوعى بالواقع هى أساس الاختلاف بين الحكم الفقهى فى ذاته، وبين تحويله إلى فتوى محددة، تعالج حالة معينة، لها ملابساتها وسياقها. فهذه عدة أمور مما يراعيه المنهج الأزهرى فى بناء عقول طلابه، وبه استنارت عقولهم، ولم تقع فى التطرف ولا التكفير، بل تحولت إلى رحمة للعباد والبلاد. لمزيد من مقالات د شوقى علام