هناك عدد من الأسس والأصول العلمية, التي اختارها الأزهر الشريف, وخدمها خدمة علمية متقنة, وتمكن من خلالها أن يحفظ مصر من التطرف والتكفير, وأن يثمر نمطا من الفكر الديني المنير الهادي, ونحن في الحقيقة نعايش الثمرة والنتيجة, والتي هي ألف سنة من قيام الأزهر علي الشأن العلمي والديني دون تكفير أو إراقة دماء, ولكننا في الغالب لا نغوص ولا نفتش عن الشفرة وسر الصنعة العلمية, التي صنع الأزهر الشريف بها تلك الثمرة, وتلك الشفرة هي التي إذا استطعنا أن نفكها ونتأملها ونعيد صناعتها فإن هذا هو الكفيل باستمرار مسيرة الأزهر في صناعة الفكر الديني الرشيد, وحماية الأمة والأوطان من التطرف والتكفير والدماء, وأساس ذلك كله هو أن الأزهر الشريف قد تحمل مواريث النبوة وعلوم الشريعة بصورتها المتكاملة, دون انتقاص ولا اختزال, وعلوم الشريعة لا تثمر ولا تصنع هداية ولا نورا ولا بصيرة إلا إذا درست معا, وتم تركيبها في الذهن بصورة شبكية مترابطة, فحينئذ تتضح الصورة, ويفهم القرآن فهما صحيحا, ويظهر مقصد الشريعة, وتتحول أصولها إلي إنتاج فروعها, وحينئذ تثمر الأخلاق والرحمة والسعة, وتصنع إنسانا جاريا علي منهج النبوة في الحرص علي كل إنسان, والسعي في تبصيره, دون حرج ولا عنت ولا مشقة, فأول خاصية من خصائص الفكر الأزهري, الذي يحصن من التطرف والتكفير هو التكامل في دراسة العلوم, ولأجل هذا كان الطالب الأزهري يتقدم لامتحان العالمية في اثني عشر علما, وتنعقد اللجنة العلمية لامتحانه في كل تلك العلوم, وهي علوم تتوزع علي المعقول والمنقول, والآلات العلمية والمقاصد, فتصنع عقلية الفقيه البصير, الذي يتعامل مع الناس في تدريسه أو إفتائه أو قضائه أو خطابته, فلا يري الناس منه إلا حكمة, ونورا, وربانية, ورحمة, وأهم ثمرة لذلك أن طالب العلم الذي يحيط بتلك العلوم والأدوات العلمية يرجع لقراءة نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف, فيقوم بعدد من الإجراءات العلمية الدقيقة, التي تمكنه من استخراج المعاني والأحكام التي أمر الله بها, علي المعني والمقصود الذي أمر به, وعند غياب هذه المنهجية الأزهرية, وغياب التكامل, وافتقاد الأدوات العلمية, فإن مقاصد الشريعة تتواري, ويتسلط الناس بأوهامهم علي نصوص القرآن والحديث الشريف, ويستنبطون منهما معاني في غاية البعد والغرابة, فإذا بهم ينتجون المفاهيم المشوشة, والأحكام المضطربة, التي تغيب معها أنوار الشريعة تماما, ويتحول صاحب هذا المنهج المضطرب المختل إلي إنسان تتلاعب به أهواؤه ومشاعره, ويظن في نفسه أنه الحكم المسلط علي عقائد العباد وأديانهم, ويتعالي علي عباد الله بما يظنه في نفسه من العلم, ويستبد بالفهم فلا يسمح لغيره أن يفهم من الشريعة الواسعة الرحيمة ما يخالف فهمه, وهو يظن في نفسه حينئذ أنه حامل الحقيقة وحده, يحتكرها لنفسه, وسبب ذلك كله غياب العلم, وعدم تكامله, والقفز إلي الإفتاء والاستنباط مع افتقاد الأدوات والمفاتيح, كمثل إنسان أراد القفز إلي سطح البيت دون سلم, فماذا تكون النتيجة, النتيجة هي هذا الحديث النبوي العجيب, الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:( إن ما أتخوف عليكم رجل, قرأ القرآن, حتي رئيت بهجته عليه, وكان ردئا للإسلام, غيره إلي ما شاء الله, فانسلخ منه, ونبذه وراء ظهره, وسعي علي جاره بالسيف, ورماه بالشرك, قال: قلت: يا نبي الله!! أيهما أولي بالشرك؟ المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي), فهذا الرجل الموصوف في الحديث يمثل حالة نادرة, لرجل قرأ القرآن حتي ظهرت بهجة القرآن عليه, لكنه لم يكتف بالقراءة, بل انتقل إلي الاستنباط والإفتاء, دون مفاتيح, ودون دوائر العلوم المتكاملة التي يقوم بها ويحافظ عليها الأزهر الشريف, فصار هذا العقل مظلما, يقرأ القرآن دون أدوات فهمه, فانتهت به هذه المجازفة إلي أن حول الشرع الشريف الذي هو رحمة وسعة وأخلاق وحضارة إلي حمل السيف, والرمي بالكفر, وخلاصة القول إن الأزهر الشريف له منهجية قائمة علي تنوير العقول بمفاتيح الفهم, ودوائر العلوم المتكاملة, والتي كان الأزهر يعكف علي تعليمها لطلابه علي مدي سنوات, وعلي يد العلماء والخبراء الأجلاء, فأخرج رجالا من العلماء الأجلاء, الذين تخلقوا بالرحمة, وملأوا البلاد نورا وعلما, وأسهموا في بناء الوطن, وتشييد مؤسساته. لمزيد من مقالات د شوقى علام