عند المساء أبلغتك الممرضة الرئيسة أن كريمة سكتت. وهنت زغاريدها ثم تقطعت وفى النهاية سكتت. وبعد قليل وجَدَتها تغرق فى البكاء. تنشج وتَشرق وتسفح دموعا غزيرة. بحرا من الدموع. فرأيت أن تتدخل. جلست وراء مكتبك حريصا على ارتداء معطفك الأبيض ليكون حصنا تحتمى به من نفسك ومن الفضول الذى لا يتطلبه عملك وطلبت أن يحضروها. كانت شاحبة وقد أذبلت الدموع جفونها . غابت حمرة امتقاعها حين كانت تطلق الزغاريد وحل بمكانها بياض رمادى. لكنها كانت هادئة وربما مهدودة فطلبتَ منها أن تذهب إلى الحمام وتغسل وجهها، وسألت التومرجية أن تعد لها كوبا من الشاى الخفيف وافر السكر وأومأت للممرضة أن تراقبها فى الحمام . كنت تهجس أن القفزات العالية لانفعال النفس يعقبها سقوط مدو وارتطام بالأرض قد يكون قاتلا. حتى هياج الهوس ينتهى إلى حبوط واكتئاب. أحضروها بعد أن أعاد لها الماء بعض نضارة وجهها وقدمت لها كوب الشاى آملا ألا يهاجمها البكاء من جديد . لم تبك. وأخذت أنت تتساحب بأسئلتك باحثا عن سر الزغاريد. ماذا حدث يا كريمة؟ منحها الشاى المُحلَّى بعضا من الطاقة وأسلمها إنهاك النهار لرغبة البوح فى سكينة المساء ، فلا مكان فى العالم أدعى للسكون وللسكينة من مصحة نفسية فى أول الليل ، يتغلغل في الخلايا ركام العقاقير التى داهمت المرضى منذ مطلع النهار ويجعلهم يتساقطون في المساء نياما أو مؤرَّقين هامدين على أسرتهم. وفي السكون راحت كريمة تفيض. كان قلبها قد قفز عاليا في سماء الحب هذه المرة. اختارت أحلام يقظتها عميد الكلية ولا أحد غيره، الرجل الوقور سليل أسرة الوطنيين والوزراء ذوى الكرامة. الطبيب العسكرى السابق الذى خرج من السلك العسكرى برسالة دكتوراه وبنيان مشدود وممشوق ، أبهة المظهر وتواضع العالِم ودماثة ابن الأصول. رجل ذو هيبة وأبعد ما يكون عن التهافت الذى رأت الرجال الجُوف يتمرغون فيه ويمرغونها معهم. كان الرجل يدير الكلية من مكتبه القديم عندما كان رئيسا لأحد الأقسام البحثية التى كان أحد علمائها وأعلامها، وظل فى مكتبه برغم أن أعمال تجديد كانت تتم فى أحد المعامل إلى جواره . وانتهت أعمال التجديد فى المعمل الخالى ولم يكن مطلوبا غير تنظيفه ليبدأ وضع « البنشات « والثلاجات والأجهزة والمجاهر وبقية أدوات المعمل. وكانت كريمة هي من أوكلوا لها تنظيف المعمل الأبيض كله. أرض من الموزايكو الأبيض وسقف من المصيص الأبيض وبينهما جدران مكسوة بقيشانى ناصع البياض. وكانت وهى منحنية تمسح الأرض فى زيها السماوى الكالح وحيدة وسط كل هذا النصوع ، تدرك أن وجودها وحيدة فى هذا المكان الخالى يمكن أن يجتذب إليها أحدهم . موظف حشاش أو طالب من «شبيحة» الكلية أو رئيس عمال لئيم . كانت متأهبة بمرارة وتنتظر أن يأتى من يأتى ويدس فى جيب جلبابها السماوى الحائل ورقة النقد لتنهى الأمر « على الواقف » بسرعة فى هذا الفضاء الخالى فى صباح باكر لا تدهمه المفاجآت. وفجأة رأت دموعها تتساقط على يديها فوق الخرقة المبتلة المتسخة التى تمسح بها الأرض. دموع كأنها تسيل رغما عنها ، غزيرة ودافئة وتترك داخلها فراغا موحشا، كأنها وعاء معتم يتخلى عن امتلائه. ثم رأت عبر ستارة الدمع طيف الحبيب الأخير. العميد . الدكتور جلال نفسه. وكانت تحمل فى كيس حاجياتها راديو ترانزستور أحمر صغيرا محطما وحجارته مربوطة على ظهره بشريط مطاط محكم . أدارت مؤشر الراديو تبحث عن أغنية تناسب طيف الحبيب وطلعت لها أغنية «مبروك عليك يا معجبانى يا غالى.. عروستك الحلوة قمر بيلالى» فوجدت فى نفسها رغبة جارفة لأن تزغرد مع الزغاريد المنطلقة فى خلفية اللحن . زغردت ففاجأتها الزغرودة تتردد بين جدران البياض كأن صداها تتوالد عنه أصداء تفضى إلى أصداء جديدة وكأنها لن تنتهى أبدا، خافت ، وفى ارتباكة خوفها اطلقت زغرودة ثانية. وكان الصدى وصدى الصدى وانقلب العالم، رأت نفسها عروسا فى فستان أبيض وعلى رأسها طرحة « تُل» بيضاء وكان هو إلى جوارها فى الكوشة. جلال. كريمة وجلال. جلال فقط. جلال عريسها وحبيبها ورجلها الذى ستعيش معه العمر كله، ستنجب منه أولادا يشبهونه وبنات أجمل منها. وكانت تزغرد. تزغرد لنفسها وله وللأولاد الوجهاء والبنات الأجمل وبدأت الأقدام تجىء. العاملات زميلاتها وموظفو المكاتب القريبة وسكرتير العميد من المكتب المجاور. ولم تر فيهم غير «معازيم» يُشرِّفون فرحها فراحت تستقبلهم بالزغاريد. شرعوا يحيطون بها ويحاولون إسكاتها وهى تتملص ولا ترى إلا أنها تُزَفُّ إلى حبيبها وتزِّفُّ نفسها بالزغاريد. ثم إنهم اخذوا يدفعونها لمغادرة المكان ويقودونها خارج المبنى ، خارج بوابة الكلية . صارت فى الشارع الملوء بالناس المحملقين وبالأولاد الذين كانوا يلتمون حول موكبها وهى تطلق الزغاريد. تلاشى العُرس ولم تعد ترى نفسها عروسا ولا ترى لها عريسا، لكن شيئا ما كان يدفعها لمواصلة إطلاق الزغاريد. دافع غامض لا إرادى وقاهر كان يدفع من صدرها الهواء لينضغط فى حلقها ويتلقفه لسانها المتذبذب لتكون الزغاريد. شىء ما سيطر عليها يهاتفها بأن الزغاريد لابد أن تتواصل فكانت تهيئ الزغرودة قبل أن تنتهى سابقتها، وامتد حبل الزغاريد، حبل يخرج من فمها لكنه يجرها وهى تترك نفسها تنجر به إلى لا شىء، لا وجود. لا خير ولا شر،. لا بؤس ولا بهجة. وكانت تشعر بوجهها يتخدَّر وجسمها تخف أثقاله فتوغل فى إطلاق الزغاريد . لم تشعر بشىء ولم تر أحدا وهي تواصل إطلاق الزغاريد إلى ماقبل الغروب ثم هوت فى غرفة العزل مغشيا عليها . وأفاقت من الغشية على أرض المعزل المفروشة بمراتب القش المدبوغة بآثار الدم والقيء والضاجة برائحة البول فأدركت أنها عادت إلى الدنيا. الدنيا التى تعرفها ولم تعرف غيرها فعاد مطر الدموع يبل وجهها أمامك فتُفضِّل أنت أن تنهى الجلسة تحسبا لليل . وتأمرهم بتقديم طعام لها تتناول بعده قرصين من الليكسوتانيل لاقرصا واحدا وتُنقل لغرفة حجز أخرى توضع فيها مرتبة نظيفة ووسادة وغطاء لتنام . ثم انصرفت إلى غرفتك فى سكن الأطباء منهكا. تشتهى أن تنام أنت الآخر. *** لم تنم تقريبا .. ظلت ناشبة فى ذهنك مشاهد الدهس التى عبرتها . يحيرك هذا الأستاذ المساعد المتدين الذي أحبته وقال أنه يحبها وكان يتحايل في استعمالها لينتشي دون أن يتحمل مسئولية أو يثقله ذنب . وضابط المباحث الذى كان يروِّع المدينة وهو يمضغها ويدعو ضيوفه ليتذوقوا لحمها الممضوغ في شقة عربدته. والطلبة الذين كانوا يتناوبون عليها تبعا للجدول الذى توافقوا عليه. كأنها دورة مياه مفتوحة للعموم . وفى المقابل آلية دفاع نفسى مرهفة تماما. أحلام شفافة لبنت صغيرة تتسامى فى أخيلة الحب وتطير فى الأغانى. ماذا عن الحلقة المفقودة بين هذين الطرفين؟ ماذا عنها عندما تعود لأطفالها وزوجها المشلول؟ لقد رأيته معها مرة عندما ترددت للكشف وهو بصحبتها ورجتك أن تكشف عليه. لم تكن تعامله بقسوة ولا زهق ولا نفور. رأيت كيف ركَعَت تُلبسه الحذاء وتزرر ملابسه وتساعده بإحاطة وسطه وهويتساند على كتفها بينما كان ينزل عن سرير الكشف. وظلت تهندم ملابسه وتسوِّي شعره قبل أن يخرجا من العيادة. هل تضم أطفالها إلى لحمها المنهوش بحنان أم عادية ؟ مكثت تتساءل حتى زحف عليك النوم والليل. لكنه لم يكن نوما بل أرقا مُمِضَّا في اللاشعور . سلسلة كوابيس رأيت نفسك فيها « كنطورا « هائجا ، نصفه حصان ونصفه بشر وهى بين قوائمك تطأها وتحمحم. رأيت نفسك عاريا وسط حلقة الطلاب العراة وهى وسط الحلقة تتلوى عارية. وشق ضابط المباحث حلقة الطلاب وتقدم منك وطعنك بسكين أسفل بطنك بينما كنت تحاول أخذها منه. لنفسك! فتحت عينيك على صوت صرختك فوجدت أول النور رماديا أبيض يشقشق عبر خصاص نافذة الحجرة. أضأت لمبة المكتب ووجدت عقارب المنبه تشير إلى الرابعة وخمس وأربعين دقيقة. وأدركت أنك لن تعود إلى النوم. كان حلقك جافا وتحس بالجوع فنهضت واغتسلت ورجعت تعد كوبا من الشاى وتأكل شيئا مما تجده فى ثلاجة الحجرة متبقيا من الأمس ، ثم ارتديت ثيابك ولم تعرف لماذا تلبس المعطف الأبيض فى هذا الصباح الباكر إلا عندما وجدت خطواتك تتجه نحو القسم . لم يكن ذهنك حاضرا تماما فكنت تسير كالمسرنم ، لا تتخذ قرارا بتصرفاتك لكن هذه التصرفات تتضمن قرارك الذى يتخذه نصف وعيك ونصف لا وعيك. وعندما وجدت نفسك تدير المفتاح فى كالون غرفة العزل التي أُودِعت فيها كريمة ، لمع فى خاطرك أنك ستفتح لها لتنتقل إلى عنبر المريضات الهادئات . « كفاية حبس وخنقة « رددت ذلك فى سرك وفاجأك عندما دفعت الباب قليلا أن تجدها واقفة وراءه مباشرة كأنها كانت في انتظارك .. تقدمت أنت خطوة وهمست، «صباح الخير يا كريمة» . ردت بصوت مبحوح «صباح النور» وتراجعت هى خطوة . خطوة ليست للوراء تماما ولكن إلى جنب حيث ألصقت ظهرها بالجدار وراء الباب الموارب. ولم تنتبه إلى اللمسة الصغيرة التى دفعت هى الباب بها لينغلق. لم تكن مستيقظا تماما لكنك صرت فى كامل يقظتك عندما فاجأتك برفع ذيل جلبابها حتى عنقها ولم تكن ترتدى شيئا تحته . تألق أمامك أبهى جسد عامر بالأنوثة والطهر والنور منبثقا من أعمق وأغلى ذكرياتك . لا كتب العلم ولا العلماء ولا عموم الناس يصدقون أن الذاكرة البشرية يمكن أن تحتفظ في أعماقها بصورة قوية لذكرى في وعي طفل لايتجاوز السنة والنصف . أنت توقن أن هذا ممكن . لأنك تراه في نفسك . وكان يتجلى في هذه اللحظة .. كنت تمشي بالكاد أولى خطواتك ، وبالكاد تعرف قليلا من الكلمات لاتجيد نطقها ، وأخذتك الحبيبة الجميلة لتحممك وهي تتحمم . وطبع موتها المبكر الذكرى عميقا في أعماقك فظلت حية نابضة في داخلك . تطفو الغالية الحبيبة مثل صورة في حلم مُهدهِد فتغمض عينيك عليها لتغمرك بحنانها وجمالها كلما ضايقتك الدنيا . لكنك الآن ترى بعيون مفتوحة ذلك الحلم حاضرا أمامك . يأخذك الحلم في حضنه دون تلامس ولا اقتراب . فينبهر وجودك بفيض عجيب من سماع موسيقى ماتراه وتذوق طعم ما تسمع . لم يحدث لك ذلك من قبل وأنت تستعيد الذكرى في داخلك . الآن في غرفة العزل المعتمة يومض أمامك البهاء الأبيض الوردي الشامخ وحنايا الظلال النقية فتسمع صوت رشاش ماء عذب ومناغاة طفل ونبض قلب رؤوم . تشم عطر النظافة ويسيل في فمك طعم حليب وعسل وتكاد تهتف بالكلمة التي كنت تناديها بها وأنت عند قدميها تنظر إليها في الأعالي تغمرها وتغمرك عذوبة الماء « مم مم ما « . ومن بعيد يلوح لك خاطُر تُنحيِّه بأن هذه التي أمامك ليست أمك التي فقدتها قبل أن يكتمل نطقك وتستقيم خطواتك . هذه ..هذه .. هذه .. لا . لاتشيح عن الطيف لتظل تسمع ما ترى وتتذوق ماتسمع . لكن مطرقة بارقة تهوي على اللحظة النادرة في طرفة عين قاسية . طرفة عين رأيت فيها ركبة ترتفع حتى الخاصرة ثم تدور ربع دائرة إلى جنب فينهدم بناء حزمة الحواس المتداخلة المتناغمة كله دفعة واحدة . لقد رفعت كريمة ركبة ساقها اليمنى المثنية ودارت بها لتنفتح لك واقفة على قدم واحدة فتقفز في ساحة بصرك صورة كلب يرفع قدمه ليبول على حائط . صعقتك منها هذه المباغتة فعميت. فقدت بصرك فعليا فى هذه الثانية وقام ذهنك باستبعاد المشهد كأنك لم تره ، أو أنك تراه خفيفا غائما كأنه من ضباب. وأسرعت تنصرف ملتقطا نظرة عينيها الجميلتين المعذَّبتين في حيرة . مضيت مدركا أنك تبتعد لكنك مرغما ستعاود الاقتراب ، آملا أن ترفع ذيل جلبابها عن عريها الفاتن دون أن ترفع ركبتها و تديرها . تروم أن ترى من جديد موسيقى الجسد الحبيب النائي الأثير وتتذوق حليب صورته النقي وعسله الصافي . تمضي كما السائر في نومه ووشيش غامض يدور في دماغك . وتصل إلى غرفتك ، غرفة الطبيب المناوب ، وأنت في دوار . ثم تغلق عليك الباب شاعرا بهول عظيم . أنت في هِبة نادرة لم تكن تصدق حقيقتها التي قرأت عنها . هبة أم نائبة ؟ تستدرك بالسؤال لكن لايهمك النتيجة ، لتكن كيفما تكون . كما المدمن يعرف أن حصوله على نشوة مايدمن تدمره لكنه بها يُحلِّق . تكتشف أنك عندما وصفت زغاريدها بالأمس ب « حبل زغاريد » لم تكن تصطنع مجازا ، ثم إنك عندما هيئ لك أنك تتصور حبل الزغاريد هذا على هيئة حبل أعلام مثلثة ملونة مما يُشدُّ في أعالي سرادقات الأفراح وسماء الاحتفالات لم يكن تخييلا لفكرة . بل كنت ترى الصوت فعلا . ترى أشكال المناديل وألوانها في حبل الزغاريد ترفرف وترتعش مع هبات هواء غامض برغم قيظ الجو الاستثنائي بالأمس . وتتذكر الآن مالم تصدق حدوثه كواقع حِسّي , فحبل زغاريدها ، حبل الأعلام المثلثة الملونة الرفراف الراعش في هوائه الاستثنائي الخاص لم يكن تصورا بل كان صورة ، وكانت الصورة تجعلك تتذوق طعم الألوان .. أحمر ، أخضر ، أصفر ، أزرق ، بنفسجي ، برتقالي ، بني .. تحس بها في فمك مذاقات تفاح ، ويوسفى ، وتين ، وملح ، وتمر ، وعرق ، ودم . أنت من أقلية تنعم وربما تشقى بخصوصية استثنائية . أنت من أهل ال SYNAETHESIA التي يترجمونها « تداخل الحواس » ، أو « الحس المتداخل » ، لكنك تختار لها الآن ترجمة أخرى هي « الانسجام المتزامن » . وهو انسجام نادر ، ساحر ومدهش ومخيف ، وكريمة شرط انبعاث هذا الانسجام الخارق داخلك . فماذا أنت فاعل بها وبنفسك ؟!.
-------------------------------- القصة فصل من سردية « انسجام متزامن»