منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت تعالت أصوات عديدة من خبراء للتعليم ورجالات التربية في مصر, تنادي بضرورة إعادة النظر في سياسات التعليم وفلسفته وأهدافه ومحتواه, وذلك انطلاقا من أن التعليم المصري يكرس ثقافة الذاكرة علي حساب ثقافة الإبداع والاختلاف. ولسنوات طويلة انحصر دور التعليم المصري وتحديدا التعليم قبل الجامعي في الاعتماد علي ثلاثية قاتلة هي( التلقين, الحفظ,التذكر) ولم يبرح تلك الثلاثية لعقود طويلة, فساعد ذلك بدوره علي تعظيم الامتحانات وأساليب التقويم البالية( الأسئلة ذات النماذج للأجوبة), فتكرست ظاهرة الدروس الخصوصية وأصبحت قرينة للنظام التعليمي تدور حوله دوران العلة بالمعلول, ساعد علي ذلك تدني الأوضاع الاقتصادية للمعلمين وزيادة كثافة الفصول وتراجع التمويل الذي بلغ حوالي3.4% من الناتج المحلي الاجمالي لعام2011/2010, مقابل35% لعام2010/2009, و3.8% لعام2009/2008 في حين إنه يتجاوز4.5% لبعض الدول العربية غير المصدرة للنفط, ويصل الي76% في الدول الأوروبية, ولقد أدي كل ذلك بالضرورة الي تراجع دور التعليم والمدرسة في عملية التعليم والتعلم, وانحصر دور التعليم في مصادرة حرية التفكير الحر نظرا لاعتماد التعليم علي التلقين والحفظ. ومع ثورة25 يناير, أصبح لزاما علينا أن نعيد النظر بشكل جذري في فلسفة وأهداف ومحتوي نظامنا التعليمي بما يحقق أهداف ثورة25 يناير, والتي تتجلي في: حرية وكرامة وعدالة اجتماعية, ولم يعد الأمر مقبولا بتصريحات المسئولين حول إصلاح التعليم والحديث حول الامتحانات وتطوير المناهج الدراسية. وبناء علي ذلك, نطرح هنا أربع قضايا ضرورة لبناء نظام تعليمي قادر علي تكوين الشخصية المصرية الواعية والناقدة والقادرة علي الفهم والادراك واتخاذ المواقف حيال القضايا المطروحة. 1 إعادة الاعتبار الي المدرسة, لقد فقدت المدرسة دورها التعليمي والتربوي, وساعد ذلك علي وجود مدرسة موازية الدروس الخصوصية التي أصبحت البديل الآن للنجاح والتفوق في ظل سياسة التعليم الحالية وأساليب التقويم البالية, إن عودة المدرسة المصرية للعمل بكفاءة وفق آليات محددة وأدوار قائمة علي الكفاءة والجدارة وتحديد الدور المناط بها في إيجاد بيئة تعلم وتعليم جادة للطلاب لهو أمر ضروري لإنجاح عودة الاعتبار الي المدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية وتربوية وثقافية, يناط بها تكوين وتشكيل المواطن القادر علي التعاطي مع مستجدات العصر في ظل مفاهيم المواطنة وحقوق الانسان, ويتطلب ذلك. ضمن ما يتطلب, ألا تغلق المدارس, بل تظل مفتوحة بوصفها منارة للعلم والثقافة ومركز إشعاع في المنطقة والحي. 2 إعادة الاعتبار الي المعلم المصري, فليس كل المعلمين يتعاطون الدروس الخصوصية, فالمعلم المصري طوال حياته الوظيفية لا يكل ولا يمل من السعي نحو تحقيق حياة كريمة وعيش كريم في ظل ظروف إقتصادية كانت موجهة في الأساس ضد الفقراء والكادحين في هذا المجتمع, وإعادة الاعتبار تتضمن التنمية المهنية للمعلم وفق أحدث الأساليب التربوية, ومن هنا فإن المطلوب سريعا تحرير المعلم المصري من كل صنوف القهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الواقعة عليه. 3 إدماج المجتمع في العملية التعليمية وليس بصورة شكلية ولكن, أن يكون لأولياء الأمور والمجتمع المدني والمجتمع المحلي دور في وضع السياسة التعليمية وأساليب التقويم والمساهمة والمشاركة المجتمعية في قضايا ومشكلات التعليم, فالمجتمع هو جمهور المستفيدين من العملية التعليمية 4 تأسيس مناهج دراسية قائمة علي الحرية وحقوق الانسان وبناء الانسان الحر, وذلك لا يمكن ان يكون الا من خلال هؤلاء الذين يؤمنون بفكر الثورة ويسعون الي تحقيق أهدافها, حيث إنه لا يتصور أن يتم بناء مناهج تعظم من حقوق الانسان والمواطنة وقبول الآخر بأناس لايؤمنون بذلك, بل يؤمنون بعكس ذلك تماما, هناك ضرورة ملحة لتدريب وتوعية العاملين بالمؤسسة التعليمية بحقوق الانسان والمواطنة, والمساواة وتكافؤ الفرص في التعليم والحياة. إن الحديث عن تطوير المناهج الدراسية وحذف الحشو, تلك المفردات لازمت السادة وزراء التربية والتعليم لعقود طويلة وأسفرت النتائج عن أن الحشو قد زاد وأن المناهج الدراسية قد توحشت بصورة شكلت رعبا امام الطلاب, وفي ظل ثورة25 يناير علينا ان ننسي تلك المفردات البالية والتي لم تؤد الي أية نتيجة إيجابية في تطوير وتحديث نظامنا التعليمي. فضلا عن ذلك فإن هناك ضرورة أساسية في إدماج التكنولوجيا داخل قاعات الدرس( الفصول الدراسية) لأنه ثبت بالدليل العملي أن شباب ثورة25 يناير الذين هم مخرجات نظامنا التعليمي البالي هم الذين كانوا طليعة تلك الثورة من خلال توظيف التكنولوجيا الحديثة في الاتصال والتواصل الاجتماعي( الانترنت, الفيس بوك, تويتر) فكلها مستحدثات تعلمها أطفالنا وشبابنا خارج جدران المدرسة, والمقصود هنا بإدماج التكنولوجيا أن تكون الدروس مؤسسة علي تلك التكنولوجيا وجزءا أصيلا منها, ولا يمكن التدريس في غيبة التكنولوجيا, بل هي رافد اساسي ومكون مهم في الدروس وفي الفصول الدراسية. وتتبقي قضية تخص الدولة وهي مضاعفة ميزانية التربية والتعليم, إن قضية التعليم والصحة من أهم القضايا المطروحة الآن علي الساحة السياسية في إطار ثورة25 يناير, ولابد أن تضاعف تلك الميزانيات بأي صورة من الصور حتي لا نظل محلك سر, فعدد المدارس حوالي45 ألف مدرسة تقع في25 الف مبني مدرسي, من هنا فنحن في أمس الحاجة الي بناء25 ألف مدرسة لنصل بكثافة الفصول الي35 40 طالبا في الفصل حتي يستطيع المعلم والمتعلم أن يتعلم بصورة إنسانية وتربوية تجعله مستقبلا مواطنا فاعلا متفاعلا مع الواقع المعيشي, قادرا علي التغيير وتحقيق الكرامة الانسانية في ظل مجتمع العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. إن بقاء الحال علي ما هو عليه سوف يضاعف من تلك المشكلات ويجعل الحل مستقبلا عصيا علينا جميعا إن التعليم المصري بصورته الراهنة غير قادر علي الفعل والحركة مما يكلف اعباء خبيثة علي الأسرة المصرية( الدروس الخصوصية, الكتب الخارجية, مجموعات التقوية.. الخ) ونحن فعلا في امس الحاجة الي تفكيك نظامنا التعليمي برمته وإعادة البناء وفق أسس حديثة ومعاصرة, ووفق قدرات مالية تساعد علي تحقيق ذلك الهدف, وهو بناء نظام تعليمي حر يطلق ابداعات الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور ويفجر الطاقات الكامنة لديهم جميعا في مجتمع ما بعد ثورة25 يناير. أستاذ أصول التربية بجامعة الاسكندرية المزيد من مقالات د.شبل بدران