يحاول خالد زيادة في كتابه »لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب« متابعة مجمل التطورات التي عرفتها العلاقات الاسلامية الأوروبية وصولا للمرحلة الحالية، راسماً صورة تاريخية للعامل العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، وحصول العرب علي الاستقلال السياسي، ولكيفية ممارسة هذا الاستقلال. وكأنه يقدم جردة حساب ليس فقط لما قدمه المفكرون، وانما ايضاً لما تم انجازه في مجالات التحديث والاصلاحات السياسية والبناء المؤسساتي. يتتبع زيادة المخاضات التي رافقت نهوض الإمبراطورية العثمانية، وما رافقها من تطورات في العلاقة مع «أوروبا» التي بدأت تدريجياً بإحكام سيطرتها علي أرجاء العالم كافة، بدءا من القرن التاسع عشر، إذ لم تكن سيطرتها عسكرية فقط، بل اقتصادية وثقافية أيضا، وأوروبا في تلك الأزمان، لم تكن امبراطورية، بل كانت دولاً متنافسة، وقد توسلت دولها الوسائل العلمية والتقنية كعلوم البحار وعلم الخرائط لاكتشاف العالم. وبهذه الوسائل سبقت غاياتها الاقتصادية والتجارية غايات السيطرة العسكرية أو تصاحبت وتزامنت معها. يتابع زيادة تلك المخاضات وصولاً لبدايات الالفية الثالثة، حيث يشهد العالم العربي مخاضات عسيرة خاصة علي الصعيد الفكري. ان ما جاء به مفكرو عصر النهضة وما راكمته الحوليات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتقنية في القرن العشرين قد اصبح مرجعية للمستقبل. رسم خالد زيادة صورة لما قدمته الحركات الاسلامية من افكار، كذلك لما رسمته الحركات الثورية والوطنية والقومية، وكانت مصر، دون تجاهل دور لبنان وسوريا والعراق وتونس وغيرها من دول، البيت الذي شغله. ففي بيئتها نشأت المدارس والجامعات ذات الاختصاصات المتعددة. ان اوروبا التي كانت تزيل الاسطوري والغيبي من ثقافاتها، كانت بما تقوم به تثير اعتراض الفئات الاسلامية المحافظة والأكثر تمسكا بتراثها ومعتقداتها التي اهتزت اهتزازا عنيفا لارجعة عنه. لقد اصبح لفولتير وروسو واوغست كومت وماركس انصار في كل انحاء المعمورة، وفي كل اللغات المكتوبة. واذا كان جيل من ابناء كل ثقافة انسانية قد تأثر باوروبا مبدياً إعجابه بالتنوير، فان جيلاً اخر قد رفع السلاح لمقارعة العدوان والاستعمار. ان ماكنا نراه بالامس قد تبدل كثيرا. فالمسلمون اليوم في الغرب يواجهون الدعوات الرافضة لبناء المساجد، كذلك الضجة المثارة حول ارتداء الحجاب باعتباره يشكل تهديدا لمباديء الجمهورية. في طبقة من طبقات الوعي الأوروبي الذي يشعر بافتقار الدور الذي سبق لاوروبا ان اضطلعت به، يحيل ضعف أوروبا السياسي او الاقتصادي او الثقافي الي الاخر، تماما كما حدث في الضفة الأخري، حيث تيارات قومية واسلامية احالت ومازالت ضعف العرب والمسلمين الي المؤامرة الغربية. في الفصل الثاني من كتابه يسلط المؤلف الضوء علي المؤثرات الغربية في الفكر النهضوي العربي، فيري ان افكار عصر التنوير أو النهضة التي طرحت في القرنين الثامن والتاسع عشر قد ساهمت في مغادرة العصور الوسطي، وكانت بنظر مؤرخيها، وليس صانعيها، تشير الي مغادرة فترة طويلة من الركود الفكري والانحطاط السياسي، كما تشير الي انطلاق الافكار الجديدة، وخصوصاً تلك التي عبرت عنها الثورة الفرنسية. ان كل نهضة هي في آن معاً عودة الي الماضي وتطلع نحو المستقبل، فالنهضة الفكرية اعطت معني للتمدن العائد الي الفكر والعقل والي التربية التي لاتعني اكتساب العلوم فحسب، بل اكتساب الفضائل ايضاً. ان الافكار التي اطلقها مفكرو عصر النهضة حول المسألة الوطنية، بما هي الرابطة المعنوية لجماعة معينة، كانت قد دعت الي النهوض واستعادة عظمة الماضي. لقد استلهم المفكرون العرب الكثير مما يمكن ان يعزز توجهاتهم في كافة المجالات، هذه الافكار التي نقلتها الايديولوجيات السياسية الي العالم العربي جعلت منها مفاهيم تقترب من العقائد اكثر مما هي شيء يمكن نقده وتغييره. ان مسار التحديث الذي تبنته الايديولوجيات السياسية العربية، خاصة ما يتعلق بفكرة الدولة اكدت تأليه الحاكم وجعلت من موقعه مكاناً لايمكن نقده أو التعرض لممارساته وبالتالي لتوجهاته في ممارسة السلطة والالتزام بالقانون. مستعيداً وظائف الدولة في الفترة العثمانية التي يري الكاتب بانها اقتصرت علي جباية الضرائب وحماية الحدود والتوسع وفرض الامن، اما العدالة فكانت منوطة بالمؤسسات الدينية. استمرت هذه الوظائف دون تغييرات تذكر حتي الربع الأول من القرن التاسع عشر، حينها بدأت الدولة العثمانية تطبق اصلاحات كانت قد بدأت تدريجيا طورت مفهوم الدولة ووسعت من وظائفها. لقد اخذت الدولة علي عاتقها فرض ترتيبات اصلاحية جديدة، خاصة في النظام القضائي، حيث تم انتزاعه التدريجي من المؤسسة الدينية، ساعدت هذه الاصلاحات علي انتشار الافكار الحديثة، كما ساهمت في تأسيس الصحافة، وبالتالي نشوء السياسة التي تعني بالشأن المجتمعي العام. ان شئون الدولة ونظامها لم تعد تخص العاهل وحده، بل تخص سائر الأمة واصبح هدف التعليم الاتصال بالمعارف المعاصرة ليرفد ادارات الدولة بالكفاءات الضرورية. ويشير الكاتب الي ما آلت اليه الأوضاع السياسية بعدما تم الغاء الخلافة علي يد اتاتورك عام 1924 فيرصد زيادة ردود الفعل المتفاوتة من قبل الأوساط العربية، تلك الردود التي لم تترك مجالا للتبصر في مصير المؤسسة الدينية التي كان يقع مركزها في اسطنبول. فالخلافة كانت مرجعية للافتاء وللقضاء. والغاؤها كان قد أدي الي تصدع في الرابطة المعنوية بين المؤسسات الدينية التي كانت تخضع للخلافة. ترك الغاء الخلافة، علي ما يلحظ زيادة، في طبقة من طبقات الوعي الاسلامي، شعورا بالهزيمة، سرعان ما تفاقم نتيجة اخفاق مشروع اقامة الدولة العربية، وقد أرجعت الحركات الاسلامية ذلك الي مؤامرة التقسيم الاستعماري. وسرعان ما تحول هذا الحدث لدي الفئات الاصولية الي مؤامرة غربية. وما ضاعف هذا الشعور، هو أن جل بلدان العرب والمسلمين كانت خاضعة للسيطرة الاستعمارية المباشرة. في هذه الأجواء ولدت جماعة «الاخوان». في تلك الفترة من تأسيس الجماعة كانت لاحزاب تتأسس وتعرف في مصر. لقد انتشرت نماذج الاحزاب الغربية في التنظيم والقاعدة. أما شرط الانتساب الي الجماعة فهو الولاء عبر مبدأ السمع والطاعة، وفي ذلك تخلت الجماعة عن جوهر الاصلاحية القائم علي التفكير واعمال العقل في مسائل الدين والدنيا. لقد تحولت الجماعة الي ما يمكن أن نسميه المجتمع البديل، حيث يقيم أعضاؤها فيما بينهم صلات تتجاوز الولاء السياسي او الحزبي الي العلاقات المجتمعية والاقتصادية. والواقع أن الجماعة ارادت أن تكون نموذجا مصغرا للمجتمع الاسلامي الموعود. لقد شكك الاسلام الاصولي باولئك الذين يعتبرون الايمان شأنا خاصا بالفرد في علاقته مع الله، وأولئك الذين احتكموا الي تشريعات الغرب وقوانينه، واعتبروا الشريعة تعبير عن هوية ثقافية ونظاما للدنيا، وبديلا عن أنظمة الشرق والغرب. لقد ساد خطاب الجماعات الاسلامية المعادي للحداثة، وانتشرت هذه الثقافة بين الطبقات الأكثر فقرا، التي لم تجن من التحديث شيئا. لقد أصبح الانتماء الي جماعة الأخوان هو ذاته اندماج في نمط عيش وفي مجتمع بديل عن القائم الذي تسوده قيم الغرب. يختم زيادة ذلك من أن ثورات 2011 قد اتاحت للحركات الاسلامية فرصة للبروز في مصر وتونس وليبيا واليمن فضلا عن حزب البناء والتنمية في المغرب. إلا أن الأخوان المسلمين في مصر، وبعد نجاحهم في الانتخابات ووصولهم للسلطة اخفقوا اخفاقا مدويا، اذا لم يكن عندهم رؤية للمشاكل المتفاقمة وخصوصا المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وباختصار كانوا يفتقدون الي برنامج للحكم. هذه الوضعية ساهمت سريعا بانفكاك حلفائهم عنهم، وخسرانهم تعاطف ودعم بقية شرائح المجتمع الاسلامي. تشكل عملية ازاحة الأخوان من الحكم منعطفا في حاضر ومستقبل الحركات الاسلامية، وستترك اثارا علي التنظيمات الاسلامية في المنطقة والعالم. أن تجارب الحركات الاسلامية ستؤذن برؤية المنعطف الذي سيدفعهم الي الاختيار بين العزلة او الاندراج في سياسة شرطها الأساسي الأول القبول بالتعددية. ان ما شهده عام 2011، يبين لنا وكأننا ازاء ثورة واحدة في عدد من البلدان التي تتشابه انظمتها الاحادية، ويمكن القول أنها ثورات تتجاوز كل الشعارات والايديولوجيات، وأن المتظاهرين في الميادين والساحات شغلتهم الحرية المفقودة والكرامة المهدورة قبل أي شيء آخر. أن مشهد العالم العربي بعد ثورات 2011 أقرب الي المشهد التأسيسي الذي يستدعي فيها حضور الدولة بعد انهيارها ولكن بشروط وآليات جدية اذا كانت الثورات مطلع القرن العشرين قد أرست أسس الدولة وأطلقت حريات المرأة والشباب والرأي، كما أطلقت النزعات الوطنية والقومية، فان أمورا مشابهة حدثت بعد 2011، فقد شهدت حضور المرأة والشباب في المظاهرات وكسر حواجز الخوف. كذلك عودة السياسة بما تعنيه في حق «الشعب» الانتظام في الاحزاب والتعبير عن الرأي، وخوض الانتخابات. إلا أن عودة السياسة تصطدم بتعثر انشاء كيانات سياسية ذات برامج واضحة، تلك الوقائع التي يعوقها انتشار الأمية السياسية والأمية المرتفعة، والفقر والتأخر الثقافي. أن اوروبا لم تعد مصدرا للأفكار الكبري، فالتحرر اليوم ليس من الاستعمار وانما من الأنظمة الاحادية. ان ثورات العالم العربي لا تدفعها الأفكار الكبري، وانما تدفعها قضايا العيش والعدالة الاجتماعية. لقد كان للأفكار دورها الحاسم في ثورات بداية القرن العشرين، حيث لعب المثقفون دورا بارزا في صياغة بني الدولة ومؤسساتها، فضلا عن تأثيرهم في نشاة الأحزاب، وكانوا همزة الوصل بين مجتمعاتهم والثقافة المعاصرة. أما اليوم فلا دور مؤثر للمثقفين في ثورات 2011 ولا دور لمؤسسات الثقافة، ولا لاحزاب سوي تلك التي تمثل بقايا احزاب خمسينيات القرن الماضي. ان تراجع دور المثقف يعزي الي ما مارسته الدولة الأحادية التي لا تحتاج الي دور للثقافة، ويعزي الي تضاؤل دور الأفكار التي تسعي الي صياغة مستقبل المجتمعات، الأمر الذي أدي الي اشغال الأفكار الدينية للفراغ الذي حققه غروب عصر الايديولوجيات والأفكار. لقد كسرت الثورات هذه الحلقة. لذا يحتاج العرب الي أفكار تتناسب مع روح العصر الذي يعيشه العالم والمستقبل الذي ينتظرنا. ولا يتحقق ذلك إلا بنشوء جيل ثقافي يتمتع بالاستقلال في الرأي، ويعيد النظر بكل الأسس الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية التي تحكم الحاضر » ينهي زيادة كتابه بذلك. الكتاب: لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب. المؤلف: خالد زيادة. الناشي: شرق الكتاب بيروت. الصحفات: 211 صفحة.