فى واحدة من قصص الأطفال الشهيرة يتحول عازف المزمار للبطل المنقذ إذ تسحر نغماته جحافل الفئران التى غزت المدينة وهددت حياة سكانها بالطاعون اللعين فتتبعه إلى النهر وعندها يغير نغماته فتتدافع لتقفز فى النهر وتعود للمدينة سكينتها المفقودة. وحكاية عازف المزمار والحلم بالبطل الذى يقدم الحل السعيد ويقهر قوى الشر أيا ما كانت، تيمة متكررة ليس فقط فى حكايات الأطفال بل فى التراث الأدبى والإنسانى عموما، مكتوبا كان أم شفهيا، وفى الضمير الجمعى للشعوب. فحكايات الأبطال، وبعضها من نسج الخيال والبعض صنعته المصادفة والأقل صنعته مواقف فارقة، وإسباغ سمات البطولة على شخصية أو فكرة باعتبارها احتياجا مجتمعيا وثقافيا فى التراث الإنساني، مسألة شغلت المبدعين والمفكرين، ووظفها السادة والساسة على مر العصور.. وإذا كانت المعاجم و قاموس ويبستر تحديدا يعرف البطل بأنه كائن استثنائى يختلف عن البشر عامة بصفاته أو بأعماله، فان إطلالة سريعة على أدبيات فكرة البطولة والبحث عن المُخلص وإن أكدت استمرارية المفهوم وتعددية توظيفه فى الحياة وأشكال الإبداع المختلفة، تشير إلى أن الأزمة التى تفرض البحث عن الخلاص والتكريس لظهور المُنقذ اتخذت أشكالا متعددة فى سياق تطور الفكر الإنسانى والمتغيرات المجتمعية، الأمر الذى انعكس بدوره على تغير سُبل البحث عن الملاذ، وصورة وسمات البطل. ففى بحثه عن طمأنينة وملاذ يحميه من تقلبات طبيعة متوحشة وكائنات مفترسة وخيالات مرعبة، وجد الإنسان البدائى الملاذ فى البحث عن صورة لله فى الماديات المحسوسة حوله وفى الاحتماء ببطولات فردية تصنعها عضلات مفتولة وسمات اسطورية خارقة. وفى التراث المسيحى تطالعنا صورة السيد المسيح باعتباره المُخلص الذى افتدى البشرية بسماحته وتعاليمه ليمهد للتحول فى مفهوم البطولة والبطل المُخلص فى الحضارات القديمة ليصل به وبنا إلى الخروج من أسر البطولة الفردية والسمات الاستثنائية لصفات إنسانية معنوية، كالسماحة والكرم والذكاء ثم الوصول فى مراحل لاحقة لصورة بطولة الفرد المهمش والجماعة (التى تعكسها بصدق سطور وحيد حامد وأداء عادل إمام فى الارهاب و الكباب والنوم فى العسل والمنسي، والدور الذى لعبه المصريون منذ 30 يونيو)، وتغير مفهوم الأزمة والخلاص ليكتسب أبعادا ميتافيزيقية كالبحث عن المطلق والحقيقة (مأساة حلاج صلاح عبد الصبور وسلطان توفيق الحكيم الحائر وطريق وشحاذ وأولاد حارة نجيب محفوظ مثالا). ويشير المفكر الإيطالى فيكو فى سياق تحليله لفلسفة تاريخ الفن إلى مراحل تطور صور البطولة على مر العصور ويحددها فى مرحلة سادت فيها الخرافة فأفرزت فنا لاهوتيا أسطوريا ثم مرحلة تمجيد السادة والأبطال المحاربين وتمثلها الإلياذة والأوديسة (ولها ما يقابلها فى تراثنا العربى فى الأدب الجاهلى وسير الهلالي، وسيف بن ذى يزن، والظاهر بيبرس...) وأخيرا مرحلة الحرية والتعبير عن الحياة اليومية.. فى ذات السياق يشير د. رمضان بسطويسى عزام فى دراسته لجماليات الفنون عند هيجل إلى أن تطور المجتمعات المدنية، حًول الفكر الأسطورى إلى فكر مدني، انعكس بدوره على صورة البطل فى الأدب، إذ غابت القوى الغيبية وصار البطل إنساناً يمتاز بانتمائه الطبقى وبصفاته.. وبالقفز بالزمان للوراء وطبقا لهذا التدرج فى الوعى الإنسانى تطالعنا صور البطولة والأبطال فى أسطورتى أوزوريس وجلجامش، الأشهر فى الحضارتين المصرية القديمة والبابلية، مقترنة بالقوى الخارقة والخلود. وفى تطور لاحق يصبح البطل فى التراث اليونانى نصف إله له سمات البشر وبعض من معاناتهم وكثير من ذكائهم (موت أخيل و أزمة أوديب إذ لم يعفه ذكاؤه الذى أنقذ طيبة، من مصيره المأساوي). كذلك فقد احتفى التراث اليونانى بسير الأبطال المحاربين (الإلياذة والأوديسا مثالا) وبخصالهم وهو ما عكسه الأدب الغربى حتى القرن التاسع عشر(فرسان المائدة المستديرة روبن هود وغيرهما). وبظهور المدارس الأدبية و المذاهب الفلسفية الحديثة اتخذت البطولة وحكاياتها منحى جديدا يستقى مادته من الحياة اليومية ومواجهة الفرد للأزمات النفسية والضغوط المجتمعية ليظهر نموذج الصعلوك (شارلى شابلن - نجيب الريحانى - عادل إمام) و المواطن العادى فى أعمال بريخت وفى موت بائع متجول لارثر ميللر وحرافيش نجيب محفوظ ومالك الحزين لإبراهيم أصلان ورجل تافه لمحمد ناجى وغيرها. ولعل هذا السياق الأخير تحديدا لا يشكك فقط فى مقولة أن الأبطال الذين صنعهم الفن أكثر عددا من الذين أنجبهم الواقع، بل أيضا يمنح البطولة لكل منسي،شهادته مسكوت عنها ، ولشعب وصفه توفيق الحكيم بأنه يعلم أشياء كثيرة بقلبه وأن الحكمة فى دمه والقوة فى نفسه.. و لكنه لا يعلم..!!