مثلما نخاف علي أنفسنا، يجب أيضاً أن نخاف من أنفسنا. إذا كان من الطبيعي أن نحترس من الغير ونحذر مما يدبره لنا الآخرون، فإن من الضروري أن نتقي شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. فالخوف من الذات لا يقل أهمية أبداً عن الخوف علي الذات. ولا يبدو أننا نخاف بما فيه الكفاية من أنفسنا. ويظهر ذلك في ما نراه من أخطاء متكررة كان يفترض تجنبها بشكل خاص بعد الثورة، من بينها خطيئة النفاق. فليس من شر أكبر منه يدعونا إلي الخوف علي أنفسنا من أنفسنا. فهو يكرس في من ينافق جبناً وخنوعاً ويولد في من يُنَافق ميلاً للاستعلاءً والغطرسة. والمعروف عن المصريين أنهم لا يرحمون الخطأ. ومع هذا يقع كثير منهم فيه. تجدهم يسخرون من ماسحي الجوخ ويتهكمون علي المنافقين، لكن تجد بينهم أيضاً من لا يخجل من كيل النفاق والمديح السياسي الرخيص حتي لو تعارض ذلك مع إرادة شعبية تحاول أن تتخلق من جديد. فمن بعد ثورة يناير تبين عوار الثقافة السياسية المصرية أمام الجميع. لم يكن مبارك بتلك العبقرية التي أشاعها عنه المنافقون، ولم يكن رجاله بالطهر الذي قيل عنهم. ولم يكن الإخوان بدورهم بالصدق الذي أسبغ زيفاً عليهم. كانت الثورة وما تزال حدثاً كاشفاً فتح المجال لمحاسبة الذات ونقد الثقافة وتطهير الوطن من آفة النفاق السياسي، ذلك المرض الذي يعود إلي مئات إن لم يكن آلاف السنين، ودفع بالعلامة الراحل جمال حمدان في معرض مقارنته بين أهل العراق وأهل مصر أن يصف الأخيرين بأنهم «أهل الوفاق والنفاق». وقد كان وصفاً قاسياً مبالغاً فيه، فضلاً عن أنه انطوي علي تعميم. والتعميم ليس بالضرورة سليما. لكنها كانت قسوة من أجل التنبيه إلي الأفضل. وهو ما فعلته الثورة وما زال واجباً عليها أن تواصله. عليها أن تعيد بناء الثقافة السياسية للمصريين بعيداً عن آفة النفاق الذي ميزها والشقاق الذي استجد عليها. وإذا كانت الثورة لم تنجح بعد في بلوغ أهدافها إلا أنها فتحت، برغم التعثر الذي تمر به، نافذة أمل في إمكانية تغيير بعض الخصال الرديئة وعلي رأسها النفاق السياسي. وهي مهمة ليست سهلة لأن تغيير الثقافة يلزمه أولاً تغييرا أكبر في مجالي الاقتصاد والسياسة. كما أن النفاق السياسي جزء من نفاق اجتماعي وإداري ومهني أكبر جميعنا يدرك أبعاده. فضلاً عن أنه سيبقي، كما خلص «ديفيد رونسيمان» في دراسته بعنوان «النفاق السياسي وقناع القوة» جزءا من الحياة السياسية حتي في الديمقراطيات، يمكن محاصرته لكن لا يمكن أن يُزال بالكامل. غير أن ما يحمل علي بعض التفاؤل علي المدي البعيد أمران. أولهما أن الطلب علي النفاق بات أقل من المعروض منه. وثانيهما أن أدوات المصريين من السخرية من حملة المباخر والمداحين والمتزلفين لم تعد قليلة. فمن يتصدي للعمل السياسي اليوم أو سيتصدي له غداً بات أكثر وعياً بأنه لن يكون في مأمن إذا نسي أن من سبق وتصدي له بالأمس إنما سقط لما ترك المنافقين يزيفون له الحقائق وينسجون له صوراً كاذبة عن شعبيته وشرعيته إلي أن داهمته رياح التغيير فأزاحته. وإذا كان المعروض من النفاق السياسي يزداد والانتخابات الرئاسية علي الأبواب، فإن الطلب عليه إما تراجع أو يجري بتحفظ شديد. علي جانب العرض نري مذيعين وفنانين ورياضيين وكتاب ومحامين ورجال أعمال وعوام يعرضون بضاعتهم المعسولة بشكل فج. لكن علي جانب الطلب وضح أن أبرز المرشحين حظوةً لا يعول علي دفع الكلام المعسول وإنما يدرك أن عليه أن يقدم للمصريين ثلاثة أشياء ليضمن استمرار تأييدهم له خاصةً وقد اتضح أن مزاجهم السياسي بات يتقلب بسرعة يخشي منها. يقدم لهم: أ) برنامجاً مفصلاً ينفذ أحلامهم. ب) وطاقم عمل جديدا ليست فيه عبثية سنوات مبارك أو عشوائية تجربة مرسي. ج) وتحالفات سياسية مع قوي اجتماعية مرجحة خاصةً من الشباب. أما النفاق فمهما كان المعروض منه متقناً فسيبقي رخيصاً لأن ثقة الناس تكتسب بالمصارحة لا بالكذب. وهو درس لا يبدو أن المنافقين الجدد قد استوعبوه عندما سارعوا إلي حمل الأبواق والمباخر من جديد تماماً كما اعتادوا أن يفعلوا من قبل. لكن ملايين المصريين استوعبوا الدرس، وباتت في أيديهم أدوات عديدة لو أحسنوا استعمالها فسيقون أنفسهم وبلدهم شر النفاق والمنافقين. فالسخرية كانت وما تزال أكثر أسلحة المصريين مضاءً ضد النفاق. فهم أصحاب عبقرية في استعمال الكلمة المغموسة بالتهكم. وقد ثبت أن كلامهم الساخرليس مجرد كلام. كانوا قد ظلموا وصوروا علي أنهم متبلدون لا يحركهم نقد إلي أن انفجروا قبل ثلاث سنوات في مشهد يدلل علي أثر الكلمة فيهم وقدرتها علي الحشد والتعبئة بينهم. فهي تفضح المنافقين وتشكل صورة عامة عنهم تؤثر في المقادير ولو بعد حين. ثم إن التكنولوجيا الحديثة بين أيديهم اليوم باتت متنوعة. إذا كانت تعطي المنافقين ساحة أوسع للكلام، إلا أنها تفضحهم عليها. وهو ما يتأكد يوماً بعد يوم مع نجاح وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة في تشكيل الوعي بعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية. إن مصر أمامها تحديات كبيرة. بعضها مفروضٌ عليها وبعضها من صنع أيدينا. وكلما تخلصنا من شرور صنعتها أيدينا كلما سهلت مواجهة الشرور المفروضة علينا. والنفاق من صناعة أنفسنا. يقول عنه الراحل يوسف السباعي لمن لا يحبون أن يروه «الوموا الأصل ولا تلوموا المرآة». إنه إرث ثقافي لدينا منه نصيب كبير. لكن ما من أمة تبقي سجينة في إرثها إلي الأبد خاصةً إذا ما عرفت أنها لن تكون آمنة علي نفسها من الغير إلا بعد أن تكون آمنة أولاً علي نفسها من نفسها. كلية الإقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات