ارتفعت صورة جمال عبد الناصر مجددا مع ثورتى 25 يناير و30 يونيو، واستدعيت وبقوة فى تأييد الترشح، المتوقع للمشير السيسى والمعلن لحمدين صباحى، للانتخابات الرئاسية المرتقبة. وفى هذا السياق، يستحق إرث ثورة 23 يوليو، قراءة موضوعية نقدية لما يستدعيه من أحلام تُلهم البعض، وأشباح تُؤرق البعض الآخر. وأسجل، أولا، أن انجازات ثورة يوليو تَجُبُ إخفاقاتها، سواء باعتبار أن خياراتها كانت إبنة زمانها, أو من منظور غايات التقدم وإن فى بيئة وبوسائل متغيرة. فقد حققت الثورة انتصارات كبرى فى معارك الاستقلال والسيادة، وأسقطت مشروعات الأحلاف الاستعمارية بزعم مواجهة الخطر الشيوعى. وكان الانتصار السياسى فى معركة السويس انعطافة حاسمة, وضعت مصر فى موقع الريادة عالميا بقيادة حركة التحرر الوطني, والتقدم على طريق التصنيع. وقد تمادت قيادة عبد الناصر فى معاركها الى مدى يتجاوز قدرة مصر, فانزلقت الى حرب اليمن، ثم استدرجت الى فخ حرب 1967. لكن الثورة، بفضل رفض الأمة للاستسلام وتحت نيران حرب الاستنزاف، حققت وعدها ببناء جيش وطنى قوى, انتصر فى حرب 1973، وأسقط مخطط التمكين والتفكيك والتركيع، وسينتصر فى حربه لدحر الإرهاب. وثانيا، إن معركة ثورة يوليو لبناء السد العالى قد مكنت مصر، ولأول مرة فى تاريخها، من كبح أخطار شَرَق وَغَرق الفيضان، وتوفير مياه النيل المهدرة فى البحر, وتوليد المتاح من الكهرباء من المصادر المائية النظيفة والرخيصة، وبناء أول شبكة قومية لتوزيع الكهرباء. وفى وقت تلوح فيه نذر حروب المياه يبقى السد العالى كاشفاً بؤس نقده الجاهل، وركيزةً للسياسة المائية لتوفير وترشيد وتنمية واعادة استخدام حصة مصر من مياه النيل. وكان تأميم قناة السويس استرداداً لحقوق مصر التى دفعت تكاليف شقها من أموال وأرواح, وتوظيفاً لايراداتها فى تمويل احتياجات التصنيع والتنمية, وفرضا لسيادتها الوطنية، وتصفية لقاعدة الاحتلال بذريعة حمايتها! وبئس فكرة طرحت بخصخصة قناة السويس، سواء من رعاة الجشع المنفلت أو قادة جماعة الإخوان! وثالثا، إن ثورة يوليو لم تنفرد الثورة بالاصلاح الزراعى, فقد سبقتها اليه الدول الرأسمالية المتقدمة حفزاً للتصنيع. ونقرأ لصبحى وحيدة سكرتير اتحاد الصناعات المصرية (فى أصول المسألة المصرية 1950)، يقول: إن تصنيع مصر يستحيل إلا إذا زدنا عدد المستهلكين لمنتجاتنا الصناعية. فنحن لا ننتج لأهل الريف الشاسع, ثلاثة أرباع أبناء البلاد؛ الذين لا يكادون يستهلكون غير المواد الضرورية لحياتهم البائسة. واليوم الذى نزيد عدد مصانعنا يكون اليوم الذى يرد فيه إلى الحياة المنتجة هؤلاء الملايين من التعساء، ونكون قد بلغنا من التقدم الاجتماعى ما نستطيع معه أن نتطلع إلى المنافسة فى الأسواق العالمية. ونعرف من وحيدة وغيره أن المضاربة على شراء الأرض الزراعية، بسبب العقلية الزراعية وبدافع المباهاة الاجتماعية، كانت بالوعة هدرٍ لرأس المال اللازم لتصنيع مصر. ورابعا، أن سعى ثورة يوليو لتسريع التنمية وتحقيق العدالة عبر التأميم الإشتراكى كان ابن زمانه, فى زمن صعود الاشتراكية البيروقراطية والديمقراطية والتوجه الاشتراكى. وقد أخفقت الثورة بوأدها للرأسمالية الصناعية الوطنية؛ لكن مواجهة هذا الإخفاق لا تكون بالانقلاب على التأميم بالخصخصة. وإنما يفرض التعلم الإيجابى من إخفاقات تأميم القطاع الخاص وخصخصة القطاع العام، التوجه لاقامة نظام اقتصادى اجتماعى جديد, يوازن بين: أدوار الدولة والسوق, والقطاع العام والقطاع الخاص، وكفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الدخل, وجذب الاستثمار الأجنبى وحماية السيادة الوطنية. أضف الى هذا، تحفيز الرأسمالية بقدر ما تسعى للربح المشروع والإستثمار الإنتاجى وتلتزم بمسئولياتها التنموية والمجتمعية والوطنية، وتعزيز الاستقلال النسبى للدولة بما يحول دون الزواج الحرام بين الثروة والسلطة! وخامسا، أن ثورة يوليو قادت محاولة طموحا للتصنيع، وضعت مصر ضمن الدول النامية الخمس الأكثر تصنيعا فى بداية السبعينيات. وتحقق هذا ارتكازا الى دور الدولة والاستثمار العام، وما اتاحه التعاون الاقتصادى والفنى مع الاتحاد السوفييتى السابق من فرص، ولكن بالاستفادة أيضا من علاقات التجارة والتمويل والاستثمار مع الغرب، فى ظروف الحرب الباردة. وقد برز مأزق التصنيع بعد استنفاد اقتصاد الأوامر قدرته على تعبئة الموارد اللازمة للاستثمار، وحرمانه من الخبرة المتراكمة لرواد التصنيع الرأسمالى الوطنى، والتأخر عن التحول من التصنيع فى اقتصاد حمائى لاحلال الواردات الى التصنيع فى اقتصاد تنافسى قادر على التصدير. وأما صدام الثورة مع أمريكا فقد تصاعد الى مدى تجاوز قدرات مصر، فكان دعمها لعدوان 1967، ثم إذعان السادات لإملاءاتها، وكانت الضربة القاصمة لثورة يوليو ومشروع التصنيع. وسادسا، أن ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر كانت ملهمة وزعيمة دعوة الوحدة العربية. ولكن لا ينبغى أن ننسى أن جمال عبد الناصر، وليس غيره، هو الذى أنهى الحرب الباردة العربية, واتجه لتوحيد الصف العربى, وقَبِل بمبدأ الأرض مقابل السلام، واستوعب بعد انفصال سوريا أن الوحدة العربية حلم مؤجل! وقد صارت المهمة العربية المصرية الآن هى التعاون، وخاصة مع السعودية والإمارات وغيرهما مما لم تعصف به مخططات الفوضى الهدامة، بتمكين الفاشية التكفيرية والإرهابية مقابل التفكيك والتركيع، وتقديم مصر مثال التقدم الشامل باستكمال التصنيع وبناء دولة المواطنة. وفى هذا السياق يتأكد صواب قرار الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين، كما تكشف للأمة خلال حكمها وعقب إسقاطه. ولكن تبقى حقيقة أن أعظم إخفاق للثورة كان مصادرة الديمقراطية السياسية, بوهم أو زعم أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تغنى عن الحقوق السياسية للمواطنة!! وهو إخفاق لا يواجه بغير بناء دولة تحترم كل حقوق مواطنيها، واستيعاب حقيقة: أن الشعب لن يقبل، والحكم لن يتمكن من إدارة الدولة بالأساليب التى فجرت الثورة، وأن الشعب لن يقبل، والحكم لن يتمكن من تكريس الأوضاع التى ولدت الثورة. إنه سبيل إعادة بناء الوطن، بما يحقق غايات ثورتى يناير ويونيو، كما عبر السيسى. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم