لعل المتابع للجهود العالمية فى مجال الحفاظ على البيئة نظيفة وصحية يتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التوجه قد أصبح ضرورة حتمية لمجابهة التدهور الشديد الحادث فى البيئة المحيطة نتيجة للاستخدامات الجائرة المصاحبة للأنشطة الحياتية للإنسان، بالذات فى الدول النامية أو التى لم تلحق بعد بركب التقدم و حسن إدارة و توظيف الطاقة النظيفة. ويُعرف الاقتصاد الأخضر باعتماده على الطاقة النظيفة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وهو ما يميزه عن الاقتصاد التقليدى الذى يَعتمد على الطاقة الإحفورية مثل البترول والفحم والغاز الطبيعي، والتى تعرف بالطاقة البنية أو السوداء، حيث ينجم عنها تلوث بيئى من إنبعاثات الأكاسيد الكربونية بكميات كبيرة، والتى تنتج عن احتراق الوقود، بالإضافة إلى تسرب الوقود إلى الموارد الطبيعية مثل المياه فى حالة رفعها بمضخات، أو عن طريق الملاحة النهرية والبحرية، والأرض ومنها إلى الخزانات الجوفية الضحلة. وفى هذا السياق لم يَعُد لمصر خيارات سوى التوجه السريع للطاقة المتجددة كقاطرة للاقتصاد الأخضر، ليس من منظور بيئى فحسب وإنما من منظورين اقتصادى و اجتماعي، حيث بدت أزمات البنزين والسولار تزداد توحشاً وتنافسية بين كافة قطاعات المجتمع، خصوصاً خلال أشهر الصيف وازدياد الطلب على الطاقة غير المتجددة. باتت الدولة تستورد كميات متزايدة من استهلاكها المحلى من البنزين والسولار وغاز البوتاجاز. كما أن الدول التى سبقتنا بأميال فى تفعيل عناصر الاقتصاد الأخضر مثل كوريا الجنوبية تمكن الاستثمار فى الإقتصاد الأخضر الصديق للبيئة هناك من إفراز حوالى 350 ألف وظيفة ترتبط فى الأساس بتزويد المواطنين بمياه الشرب وحماية الأنظمة البيئية من التدهور. وفى سويسرا تتجه الشركات العاملة فى مجالات الزراعة والبناء والتنمية الصناعية بقوة نحو الاقتصاد الأخضر حيث قدر عدد هذه الشركات بنحو 70 ألف شركة متنوعة، استثمرت ما يقرب من 3.7 بليون فرنك سويسرى أو 3.5 بليون دولار الأمر الذى يشير إلى الدور المستقبلى للاقتصاد الأخضر، كما أن الدولة تمنح تسهيلات نوعية لهذه الشركات. وعالمياً وجد أن شركات الاقتصاد الأخضر تستأثر بحوالى 17% من الوظائف المعروضة على المهنيين ذوى الكفاءات العالية و القادرين على تفعيل مفاهيم الاقتصاد الأخضر والارتقاء بعناصر تطبيقه. وعودة إلى المشهد المصرى فما لازلنا بعيدين عن تطبيق أسباب الاقتصاد الأخضر رغم أنه توجه واعد فى كثير من مناحى الحياة مثل الزراعة، وإدارة الموارد المائية، والصناعة، والنقل، والمواصلات، والمدن، والمبانى، وإدارة النفايات، والسياحة. وهذا الابتعاد ناجم عن عدم استيعاب المفهوم وقصور فى تخطيط السياسات التنموية، وما يندرج تحتها من تفشى البطالة، وتدنى مستوى تقديم الخدمات الأساسية، والصحية، والبيئية، مبتعدين عن تحقيق أهداف الألفية الثالثة، رغم أن مصر تعتبر من الدول الأكثر تعرضاً لمخاطر التغيرات المناخية مثل ارتفاع درجات الحرارة الناجمة عن احتراق الطاقة البنية و الاحتباس الحرارى المصاحب لذلك، وارتفاع منسوب سطح البحر المتوسط أمام أراضى الدلتا الخصبة، واحتمالات طغيان مياه البحر على أجزاء منها. ولكن الشيء المبشر هو بدء تفاعل المجتمع المصرى شيئاً فشيئاً مع معطيات الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، مثل الحديث الجارى عن دعم وزارة الكهرباء للسخانات الشمسية، و محاولات رفع مياه الرى بالطاقة الشمسية، وإدارة المزارع على أطراف البلاد بطاقة الرياح، و إعذاب مياه البحر باستخدام الطاقة الشمسية و طاقة الرياح، وغيرها. و مثال على ذلك فقد قدرت كمية وقود السولار المستخدم لرفع مياه الرى بالأراضى الزراعية على مستوى مصر بحوالى 700 ألف طن، ومن المعروف أن هذا النوع من الوقود يتم التنافس عليه خلال فترات الصيف سواء لتشغيل طلمبات الرى أو ماكينات الحصاد، أو لتشغيل سيارات نقل السلع والمنتجات الزراعية وما شابه. وعندما اقترح البنك الدولى فى عام 2005 استخدام الطاقة الكهربية بديلاً عن وقود السولار لتشغيل طلمبات رفع مياه الرى كان ذلك على خلفية نقص مخزون الوقود الإحفوري، وبالتالى ارتفاع سعر السولار الذى تدعمه الحكومة بنسبة 370 بالمائة فى الوقت الراهن. وبفرض أن الطن الواحد من السولار يحتوى على 1190 لتراً، وأن سعر اللتر غير المدعوم 5.21 جنيه، فإن الطاقة المستخدمة فى الرى تكلف سنوياً حوالى 4.3 مليار جنيه. هنا قد يدعى البعض أن أسعار توليد الطاقة الشمسية أضعاف الأسعار الحالية لوقود الديزل والكهرباء، إلا أن هذا الادعاء لا أساس له لأن أسعار وقود الديزل أو الطاقة الكهربية مدعومة حالياً بأضعاف تكلفتها الحقيقية، كما أن تكاليف تشغيل وصيانة محطات الطاقة الشمسية تقريباً منعدمة عكس محطات الديزل أو الكهرباء، فضلاً عن نظافتها واستمراريتها بإذن الله. وببعض الحسابات المبدئية، وقبل تخليق السوق الملائم لتوليد الطاقة الشمسية فى مصر لكافة الأغراض و من ضمنها الري، والذى بالطبع سيؤدى إلى تخفيض الأسعار الحالية بشكل كبير، وجد أن إنشاء محطات توليد الطاقة الشمسية بمشتملاتها يكلف حوالى 4000 جنيه للفدان، كما أنها لاتحتاج إلى تكاليف صيانة وتشغيل كما ذكرنا سلفاً، أى أن الزمام المروى فى مصر قد يحتاج إلى 34.4 مليار جنيه لتوليد الطاقة الشمسية اللازمة لرفع مياه الري، أى ما يعادل مصاريف التشغيل فقط بوقود الديزل لمدة 8 سنوات فقط. ولكن يبقى دائماً التحدى الأكبر فى الحاجة إلى الركض، لا المشي، ليواكب تحولنا إلى الطاقة المتجددة معدلات نضوب الطاقة الإحفورية، وتدهور البيئة، فالنجاح غالباً يأتى للذين يجرؤون على القيام بالأعمال، ولا يأتى للكسولين الذين يخافون من النتائج، وقديماً قال الحكماء «الأفكار الكبيرة تخاطب فقط العقول الكبيرة، بينما الأعمال الكبيرة تخاطب الجميع». لمزيد من مقالات طارق قطب