رغم أن مصر قد قامت بثورتين عظيمتين للمطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. ورغم الضمانات التى يكفلها الدستور لحرية الرأى والفكر والإبداع.. إلا أن شبح قضايا الحسبة مازال يطارد المبدعين والمفكرين . «قضايا فكرية» آثرت أن تبدأ أولى صفحاتها، بفتح أوراق هذا الملف الشائك.. نثير هنا التساؤلات.. نطرح المخاوف والاعتراضات.. ونستعرض آراء الخبراء والفقهاء والمبدعين فى هذه القضية القديمة الجديدة : قضية «الحسبة». ونحن على أعتاب حقبة مهمة حاسمة فى حياة الوطن نتساءل ما حدود قضايا الحسبة والرقابة وتأثيرها على الإبداع والفكر، بل وعلى جوانب حياتنا كافة، السياسية والفكرية والاجتماعية على السواء؟ هل يجوز إطلاق قضايا الحسبة هكذا دون قيد أو شرط علما بأنه لا يوجد ما يسمى بقانون الحسبة، حيث تم إلغاؤه عام 1955؟ وإذا كان المحتسب الذى لعب قديما دورا مهما فى حياة الدولة الإسلامية قد غاب بتطور آليات وقوانين الدولة المدنية الحديثة فلماذا بقيت الحسبة ؟. ألا تتعارض «الحسبة» مع مناخ الحرية والديمقراطية التى نادت بها ثورة 25 يناير و30 يونيو؟.. حول هذه القضية أجرينا مواجهة مباشرة بين رأيين متعارضين، واستعرضنا فى تحقيق صحفى آراء نخبة من المفكرين والمبدعين ورجال القانون ، وتعرفنا أيضا على الأصل التاريخى لقضية الحسبة ، فى محاولة منا لتفنيد هذه المسألة الشائكة التى عادت تطل مرة أخرى على حياتنا.
الطاهر مكي:يتطاولون ليشتهروا والأفضل إهمالهم أعاد حكم قضائى صدر أخيرا بحبس الكاتب كرم صابر 5 سنوات بسبب مجموعته القصصية «أين الله» إلى الأذهان قضايا حرية الفكر والإبداع من جانب، وقضايا الحسبة والرقابة من جانب آخر. «أين الله» التى اعتبرت حسب تقرير الأزهر - ازدراء للدين أعادت فتح أبواب الجدل حول نظام الحسبة والرقابة فى الإسلام. فى السطور التالية نستطلع آراء أستاذين جامعيين وقامتين أدبيتين حول نظام الحسبة وحرية الفكر، أحدهما الدكتور الطاهرأحمد مكى أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، والآخر الشاعر المعروف حسن طلب أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان. - تثار بين الحين والآخرقضايا فكرية يراها البعض تطاولا على الدين،ويراها آخرون حرية فكر، كيف ترى الأمر؟ - الدين أعظم من أى تطاول ومن أى صغار، ولو صمت المسلمون على تطاول رسام الكاريكاتير المسيء للنبى محمد صلوات الله عليه، ومروا بالأمر كأنه لم يحدث،لمات هذا الشخص من دون أن يسمع به أحد،ولما تكرر الأمر. المستشرقون الذين تحاملوا- غفلة أو جهلا- على الرسول صلوات الله عليه ، صار كل ما كتبوه نسيا منسيا ، ولم يعد يهتم به أحد. وأضاف د. مكى: هؤلاء يتطاولون ليشتهروا،وأنا أعرف معرفة شخصية أحد هؤلاء تطاول على الله وعلى الدين ولحسن الحظ لم يسمع به الأزهر، فكتب بنفسه شكوى باسم غيره - لمجمع البحوث الاسلامية ، يتهم عمله بالتطاول على الدين ، ومن تلقى الشكوى أدرك اللعبة ، فلم يسأل عنه. ولم ينشر، ومات الشاعر ، ولم يسمع به أحد، ومات شعره . وتابع د. الطاهر:أتمنى على الأزهر ألا يعير هؤلاء أى اهتمام على الإطلاق ، مؤكدا أن الإبداع يحتاج إلى حرية مطلقة، ولكن هل ستعطينا الحرية المطلقة الروعة والخلود؟! .. الابداع جمال ، والتطاول ليس جمالا. وتابع مكى: من رأيى أن الدين أكبر من كل تافه، ويجب ألا نعيرهم أهمية تذكر. ما يعار أهمية ليس الإبداع، وإنما الفكر، إذا تناول إنسان قضية فكرية، وكان بها جنوح فى الفكر، فيجب الردّ فكريا، كما حدث بين العقاد ومصطفى صادق الرافعى حول إعجاز القرآن «تحت راية القرآن». وردا على سؤال عن أين هى السلطة الأدبية التى تقيّم الأدب بموضوعية؟ أجاب د. الطاهر: كل المقاييس تدهورت، وبالتالى كل الحكماء الذين نحتكم اليهم اختفوا من الساحة ، وبقى القارئ وحده هو صاحب السلطة الأدبية، ولكن أى قارئ؟ إنه القارئ المثقف. الحسبة وظيفة مدنية يحددها الحاكم وعن نظام الحسبة قال د. الطاهر: وظيفة المحتسب اخترعتها الدولة لتنظيم العمل، وأشهر الكتب فيها كتاب «نهاية الرتبة فى طلب الحسبة» لعبد الرحمن الشيرازى، وكان معاصرا لصلاح الدين الأيوبى، ولعله وضع الكتاب بناء على طلبه لمساعدة الحكومة فى مراقبة أرباب الحرف والصنايع. وظل كتابه هو المطبق فى مصر منذ عصر صلاح الدين إلى نهاية عصر محمد علي. وهو من أفضل كتب الحسبة تنظيما ، فقد أعده صاحبه لتطبيق أحكامه والرجوع إليه. حيث قسّمه 40 بابا، جمع فى كل باب القضايا المتشابهة: الباب الأول فيما يجب على المحتسب معرفته من شروط الحسبة ومستحباتها، وأن يكون «فقيها عارفا بأحكام الشريعة ، ليعرف ما يأمر به، وينهى عنه» الباب الثانى خاص بالأسواق والطرقات .الباب الثالث خاص بالأوزان بالقناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم .الرابع: فى الموازين والمكاييل، ثم يمضى بعد ذلك : باب للخبازين والدقاقين والفرانين وصناع الزلابية والجزارين والشوائين... إلخ. الباب الأربعون ويشتمل على أمور خاصة بالحسبة نفسها. وهل كانت الحسبة تطال الأفكار؟ - سلطة المحتسب لم تكن تتدخل فى الفكر والإبداع أبدا، ولا ترد عن هذا كلمة واحدة فى كتاب الشيرازى. واختتم الدكتور الطاهر حديثه مؤكدا أن الإبداع الهائل الذى أنجزه الإسلام على امتداد قرون عديدة فى مجال الفكر وفى كل الأنواع الأدبية شاهد على أن التضييق على حرية الفكر لم يكن من مبادئ الإسلام على الإطلاق، وأن الإسلام لم يعرف نظام «الإنديكس» ( تحريم كتب معينة على المسيحيين تصدر سنويا) ، مشيرا إلى أن كل فكر مباح للمسلم أن يقرأه ويقول رأيه فيه، ومن هنا عرف الإسلام مختلف المذاهب والأفكار والحريات ولم يضيّق على معتنقيه أى لون من ألوان الفكر.
حسن طلب: ثقافتنا لاتزال رهن الرقيب
ما رأيك فى الحكم الصادر ضد صاحب مجموعة «أين الله»؟ - لم أقرأ مجموعة (أين الله؟)، إذن فليس لى حق الحديث عنها؛ وإن كان لدى انطباع أولي، بأن مؤلفها ربما يكون قد نظر إلى مجموعة توفيق الحكيم الشهيرة: (أرنى الله). وما أستطيع أن أتحدث عنه هو ظاهرة (الرقابة) التى تسمح بمصادرة الأعمال الفكرية والأدبية باسم الدين حينا، وباسم الأخلاق أو السياسة حينا آخر. والحق أن ثقافتنا قد عانت ولا تزال تعانى هذا السيف المسلط على رقبة الإبداع والمبدعين؛ وليس تقرير الشيخ محمد الغزالى عن (أولاد حارتنا) بالبعيد، فقد أدى إلى مصادرة الرواية، وكاد يودى بحياة نجيب محفوظ؛ وهو تقريبا ما حدث مع كتاب لويس عوض: (فقه اللغة العربية)، والأمثلة يضيق عنها المقام. إن روح الشك التى يوحى بها السؤال: (أين الله؟)، هى روح قديمة قدم إبراهيم الخليل، بل يمكن أن نعود بها عشرات القرون إلى الوراء، فقد أنكر «نفرحتب» العقائد المصرية القديمة فى البعث والحساب بعد الموت. ولم تكد تخلو حضارة من هذه الروح الناقدة المتشككة؛ فهذه هى الحضارة الإسلامية فى أوج ازدهارها، تشهد تجليات شتى فكرية وأدبية، لهذه الروح؛ وحسبنا أن نراجع أعمال أبى حيان التوحيدى وابن الراوندى وأبى العلاء المعرى وغيرهم. غير أن ما يهمنا أكثر فى هذه المناسبة، هو الأعمال الأدبية كما يمثلها الشعر، فقد كنا لا نزال فى عصر الصحابة والتابعين حين أنشد «قيس» متغزلا فى «ليلى»: وإنى إذا صليت وجهت نحوها بوجهى وإن كان المصلى ورائيا! ولم نسمع أن أحدا أنكر على «قيس» مثل هذا الشعر من المسلمين الأوائل؛ بل كانوا يتناشدونه ويطربون له، ولهم أسوة فى حبر الأمة عبدالله بن عباس ، الذى كان يحفظ شعر «عمر بن أبى ربيعة» على ما فيه من غزل حسى صريح. وبعد مجنون ليلى بقليل، سجد «الفرزدق» طربا لبيت شعر سمعه من معلقة «لبيد» وهو فى الجامع، فلما أنكر عليه أحدهم سجوده للشعر، أجابه قائلا: هذا هو موضع سجدة فى الشعر، أعرفه كما تعرف أنت مواضع السجدة فى القرآن! أما «أبو تمام»، فقد كان يمشى بلفافتين تجمعان شعر أهم شاعرين قبله، وهما: «مسلم بن الوليد» و«أبو نواس»؛ فلما سئل عنهما قال: هاتان هما «اللات والعزى»، ولى عشرون سنة أتعبدهما؛ ومع هذا لم يعدم من يدافع عنه من نقاد ذلك الزمن، إزاء من أساءوا فهمه من المتشددين وضيقى الأفق؛ وهذا بالضبط هو ما فعله «أبو بكر الصولى»، الذى رأى فى العبادة هنا ضربا من إتقان العمل، والعمل عبادة كما نقول. وشيء من هذا وقع للمتنبى حين رموه بالزندقة فى قوله: يترشفن من فمى رشفات هن فيه أحلى من التوحيد فقيل لهم: وهل للتوحيد مذاق محسوس فى الفم أيها المتنطعون! وأضاف طلب:غير أن أحدا من الشعراء لم يبلغ الغاية التى بلغها «المعرى» فى لزومياته التى طبعتها دار الكتب، ثم أعادت طبعها مكتبة الأسرة منذ بضع سنوات؛ ويكفى هنا أن نقرأ قوله: اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دينٍ وآخر ديِّنٌ لا عقل له ولم يتردد فى فضح النفاق الدينى حتى لو احتمى بالمساجد: مساجدكم ومواخيركم سواء، فأفٍّ لكم من بشر! وتابع د. طلب:هذا هو جانب من الإبداع الشعرى فى تراثنا؛ حين كانت الحضارة مزدهرة، وحين كان الناقد هو القاضى الطبيعى للشاعر؛ وحين كانت ذائقة الجمهور هى الحكم، فما راقها أقبلت عليه، وما لم يرقها أعرضت عنه فكسدت سوقه. أما اليوم، وبعد أن صرنا إلى انحطاط بعد ازدهار؛ فقد أصبح المبدع يحاكم أمام محاكم الجنح والجنايات، شأنه شأن سائر المجرمين؛ وذلك بسبب نظام (الحسبة) الذى لم يكن له وجود فى الإسلام؛ وهى وظيفة دينية قضائية تقوم على فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ والأصل أن هذا هو واجب المسلمين كافة، ولكنها أصبحت منوطة بموظف مختص منذ العصر العباسي، واستفحل أمرها فى عصور الانحطاط؛ فهى مرتبطة إذن بنظام الخلافة؛ ومن يتمسكون بها اليوم، هم من دعاة الخلافة وإن لم يدركوا! وردا على سؤال: ألا تكفى نصوص الدستور الجديد لحفظ حقوق المبدعين والمفكرين؟ أجاب د. طلب : قلنا نعم للدستور الجديد، ففيه بعض المواد التى تنتصر لحرية التعبير والإبداع؛ ولكنه لا يقف بصراحة فى وجه نظام الحسبة، سيظل ولاة الحسبة هنا وهناك، يتربصون بالمبدعين ويخرجون لحرية الإبداع ألسنتهم، ويشهرون فى وجه المبدعين خنجرهم المسموم الذى طعنوا به من قبل نجيب محفوظ!