الانتخابات الإقليمية الفرنسية جاءت بمثابة صدمة عنيفة لليمين الحاكم ولحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية, حزب الرئيس نيكولا ساركوزي. فقد حقق الحزب الاشتراكي واليسار المعارض. فوزا كبيرا وتقدما فاق كل التوقعات وكل استطلاعات الرأي السابقة علي الانتخابات, بل ربما لانبالغ إذا قلنا إن هذه النتيجة فاقت توقعات الاشتراكيين انفسهم. حيث حقق الحزب الاشتراكي واليسار المعارض نسبة53% بينما حصل حزب ساركوزي علي نسبة35% و17,5% لحزب الجبهة الوطنية الذي يمثل اليمين المتطرف. وهذه الهزيمة غير المتوقعة اثارت مخاوف حقيقية لدي قيادات اليمين وشخصياته ودفعت الرئيس ساركوزي إلي عقد اجتماع عاجل صباح أمس مع رئيس الوزراء فرانسوا فيون لإجراء تعديل وزاري سريع يشمل الوزراء الذين لقوا هزيمة ساحقة في الانتخابات. اللافت للنظر ان هذه الهزيمة المريرة لليمين وأيضا لساركوزي لانه ليس بعيدا عنها بل ربما هو المقصود بها تأتي بعد أقل من ثلاث سنوات علي الفوز الساحق الذي حققه اليمين وأيضا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام2007.. فماذا حدث؟ في البداية لابد من القول ان الانتخابات الإقليمية والمحلية ليست هي الانتخابات الرئاسية أو التشريعية ويجب علي المراقب والمتابع ان يكون حريصا في ربط مايحدث في الانتخابات الإقليمية بما يمكن ان يحدث في الرئاسية والتشريعية, خاصة مع وجود هذه النسبة المرتفعة وغير المسبوقة في الغياب أوالامتناع عن التصويت بنسبة63%, كما انه في استطلاع للرأي ينشر أخيرا قال الفرنسيون انهم صوتوا اولا وقبل كل شيء وفق اعتبارات وتحديات محلية, والمسرح السياسي المحلي ينفصل أكثر وأكثر عن المسرح السياسي القومي علي المستوي الوطني, فعلاقات القوي ليست هي نفسها علي الاطلاق. كما انه كثيرا ماحدث ويحدث أن انتخابات منتصف الفترة الرئاسية كثيرا ماتكون في مصلحة الاغلبية الحاكمة وقد رأينا ذلك في انتخابات1992 في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران وفي منتصف رئاسته الثانية لفرنسا. ولكن هذا لايمنع حقيقة ان نتائج الانتخابات كانت واضحة فيها نسبة غياب قياسية ربما تؤكد عدم الاكتراث لا بالانتخابات ولا بالسياسة. الأمر إذن يتعلق برسالة تحذير وإنذار يبعث بها الرأي العام الفرنسي الي الرئيس ساركوزي وحكومته وأغلبيته بل يعتبره بعض المراقبين والمحللين عقابا موجها إلي الرئيس خاصة ان الحزب الاشتراكي لم يصل إلي هذه الدرجة من التوحد وتقديم المشروع البديل الذي يجعله يحقق هذه النتيجة الممتازة.. في الانتخابات التصويت إذن لم يكن حبا في زيد الاشتراكيين وإنما كراهية في معاوية اليمين الحاكم. وإن كان الرئيس ساركوزي يرفض هذا التحليل ويقول وفق التقارير إننا لايمكن ان نتحدث عن رقم قياسي تاريخي في الغياب والامتناع عن التصويت وفي الوقت نفسه عن تصويت عقابي وهو يدلل علي ذلك بما حققه واحد من الساركوزيين المتحمسين لان جويانديه وزير الدولة للتعاون حيث حصل في الجولة الأولي علي نسبة32.13%, وهي نتيجة قوية. ومع ذلك وبرغم تصريحات المسئولين اليمينيين ورغم محاولات ساركوزي للتقليل من شأن النتيجة وانعكاساتها حيث يري انه لايجب الخلط بين الأمور فالانتخابات الإقليمية تظل عواقبها وانعكاساتها إقليمية. والانتخابات القومية تشريعية ورئاسية, تكون عواقبها وانعكاساتها قومية, وإن كان البعض يرد بأنه مع وجود20 وزيرا يخوضون هذه الانتخابات لايمكن استبعاد البعد القومي فهي من هذا المنطلق أيضا يمكن ان تمثل استثناء علي الرئيس وحكومته وإن لم تنعكس بشكل مباشر علي علاقات القوي, بمعني انها لاتسقط اليمين الحاكم ولا تأتي باليسارالمعارض إلي السلطة. ولكن شعور الشارع بالمرارة والسخط وعدم الرضا امر واضح لا لبس فيه وذلك انطلاقا من تزايد المعاناة والاحساس بأن ماوعد به ساركوزي لم يتحقق. * البطالة وصلت إلي مستوي قياسي لم تشهده منذ أكثر من عشر سنوات. * مستوي المعيشة والقوة الشرائية في تراجع. * مستوي الخدمات من علاج وتعليم ومعاشات.. كلها تتدهور. * ماوعد به من اصلاحات تعطي دفعة قوية لفرنسا واقتصادها وصناعتها ومكانتها لم ير منه المواطن الفرنسي أي شيء. بل هو يري في المقابل المزيد من الامتيازات للأغنياء والطبقات المرفهة والمزيد من الضغوط والالتزامات علي الفقراء الذين يعانون الامرين من اجل الحد الادني من المعيشة. حتي ان بعض المراقبين يصل إلي حد اعتبار ان ساركوزي قد فشل في سياساته ومشروعاته الوعود كثيرة والأعمال والمردودات قليلة. إضافة إلي انه قد اغرق فرنسا في الديون بشكل تجاوز كل الحدود.. مما سيكون له اثاره وانعكاساته السلبية علي الأجيال القادمة حتي ان البعض يري ان فرنسا في دينها العام لاتبعد كثيرا عن إسبانيا وإيطاليا والبرتغال ولكن الذي يحميها من نفس المصير الذي تتعرض له اليونان هو سمعتها ومكانتها الدولية والأوروبية فالبعض يري انه يرهن مستقبل الأجيال, لكي يدير عجلة الاقتصاد ولكي يؤمن لنفسه ولحزبه النجاح في الانتخابات المقبلة؟! وإن كان في هذا شيء من المبالغة حيث ان الأزمة المالية الاقتصادية العالمية لم تترك سبيلا آخر لاحد سوي المزيد من الاقتراض لضخ الأموال وابعاد الشبح حتي وان كان وهميا في نظر البعض. والأزمة الاقتصادية التي لايري لها الفرنسيون نهاية قد زادت من قلق الفرنسيين وغضبهم ومعاناتهم وساركوزي منذ أشهر يبدو في نظر البعض ضعيفا عاجزا ومصداقيته في تراجع وليس بعيدا عن استياء الشارع وسبب هبوط شعبية ساركوزي سلوكه الشخصي والعائلي وما سعي إليه نجله من رئاسة مجلس إدارة ضاحية لارفانس, وهو لم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين. ولكن الجولة الثانية من الانتخابات, لابد أن تحدد مدي الاختراقية التي حققها اليسار ومدي نجاحه في اكتساح آخر معاقل اليمين خاصة في جزيرة كورسيكا وفي منطقة الألزاس. وان كنا يجب ألا ننسي ان ساركوزي نظره يذهب إلي ابعد كثيرا من هذه الانتخابات الإقليمية. ومن الجولة الثانية..ان عينه علي الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية في ربيع عام2012. ومن هذا المنطلق. فإنه يظل الرئيس الحقيقي والمسيطر علي حزب الاتحاد من اجل حركة شعبية. البعض يأخذ علي الحزب ان إدارته للحملة علي المستوي القومي لم تكن ممتازة وان رسالته لم تكن واضحة.. ومن هنا فإن تحركه في المقام الأول في اتجاه الحزب, المتوقع ان يجري فيه بعض التعديلات. ليمرر مكانة اثنين من الساركوزيين الموالين والمؤتمنين والمتحمسين وهما بريس هورتفيه وزير الداخلية وآلان مارليكس وزير التجمعات الإقليمية والخبير المحنك بالخريطة الانتخابية, لكي ينخرطا بشكل أكبر في شئون الحزب وتحركاته وتعبئاته للمعركة الاساسية والكبري القادمة بعد عامين, بهدف التعبئة الافضل فساركوزي بحاجة إلي فريق من المقاتلين لهذه المعركة. وبأدوار محددة. والسؤال المهم والحاسم الآن يتمحور حول الدرس الذي يمكن ان يستخلصه ساركوزي من هذه الصفقة الاستراتيجية الانتخابية التي يتبعها اليمين غير المنتجة وغير المثمرة, وهي تواجه تهديدات واضحة سواء بنجاح اليسار أو بانبعاث اليمين المتطرف. إضافة إلي التساؤل المرير الذي يواجه جميع القوي السياسية هذا الغياب التاريخي غير المسبوق. في14 مارس هل سيتكرر وهل سيتزايد؟ وفي ظل هذه الاجواء والظروف.. يري البعض ان الرئيس ساركوزي ليس امامه سوي واحد من خيارين: إما ان يواصل اسلوب الحزم السياسي.. الإرادة السياسية التي اقنع بها الناخبين الفرنسيين في عام2007, وحقق من خلالها.. مع الآلة الحزببة القوية والمنظمة والمعبأة انتصارا كبيرا, ولكن مع المخاطرة هذه المرة بأن يواجه بالمزيد من استياء الفرنسيين ورفضهم خصوصا بعد ان شعروا بأن أيا مما تحمسوا للتصويت من اجله عام2007 عن قطيعة مع الماض واصلاحات تحقق وثبة في الاقتصاد الفرنسي وفي المستوي المعيش. لم يكن سوي مجرد وهم انتخابي لم يتحقق منه علي ارض الواقع سوي اقل القليل إن كان قد تحقق شيء علي الاطلاق؟!. وإما تهدئة إيقاع وحجم الاصلاحات المعلنة مع المخاطرة بأن يبدو كأنه قد فشل في تحقيق الاصلاحات التي كثيرا ما لام اسلافه في إهمال تحقيقها أو أنه تخلي عن هذه الاصلاحات وفي كلتا الحالتين سيكون قد خيب آمال الناخبين الذين صوتوا له ولحزبه بكثافة عام2007. وإذا كان ساركوزي يشعر حاليا بأنه لاتوجد بين اليسار المشتت شخصية تجمعه وتنافس علي الرئاسة فماذا إذا جاء دومنيك شتراوس خان الذي اعتبرته استطلاعات الرأي الشخصية التي تحظي بالمكانة الأولي وبالثقة لدي الفرنسيين؟!.