علي الرغم من الاحباطات التي تعاني منها شعوب المنطقة العربية مما بات يعرف بالربيع العربي فإنه من الخطأ الجسيم أن نعتقد أن هذا الربيع ليس حدثا تاريخيا كالأحداث التي حفل بها التاريخ مثل الثورة الفرنسية وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي, صحيح أن الأصوليين سيطروا علي جزء من مساره مؤقتا لكنه حرك المستنقع الآسن وكشف عورات الأنظمة الحاكمة البعيدة عن شعوبها والمتكلسة فكريا والمنحطة أيديولوجيا.. أنظمة الحزب الواحد والصحيفة الواحدة واللغة الخشبية التي تردد الشعارات نفسها منذ عشرات السنين حول الوحدة والحرية الاشتراكية والمقاومة والممانعة والصمود والتصدي. وإذا كان من العرب من تجاوزوا المرحلة الأصولية والإخوانية لأنهم أصبحوا ماركسيين وبعثيين وناصريين وقوميين فإن انتفاضات الربيع العربي تعيدهم إلي صوابهم وتؤكد أنهم استهانوا بأهمية التيار الأصولي وتغلغله الواضح في أعماق جزء لا يستهان به من الشعب ولم يولوا الاهتمام الكافي للعصبيات المذهبية والعرقية والطائفية وهكذا يعيد الربيع العربي إحياءها والنفخ بنارها من خلال دعاوي الأصوليين والإخوان فهل يعني ذلك أن الربيع العربي لم يحمل أي جديد؟ يجيب المفكر السوري هاشم صالح في كتابه( الانتفاضات العربية في ضوء فلسفة التاريخ) أن دخول العرب في مرحلة الربيع العربي وتسيد الإخوان والأصوليين والتكفيريين هذه المرحلة لا يعني انتصار هؤلاء بل هو بداية انحصارهم وهذا ما يعبر عنه الفيلسوف الالماني المعروف هيجل بمصطلح مكر العقل أو مكر التاريخ أحيانا عن طريق استخدام أدوات لا تخطر علي بال أحد.. أي استخدام القوي السلبية المضادة لحركة التقدم من أجل التقدم نفسه! إنه من منظور يري أن التاريخ له قواعد يمشي في ضوئها إلي الأمام علي الرغم من كل التراجعات والمظاهر التي توحي بالعكس وهو يمشي إلي الأمام بهدف تأسيس الدولة التي من غايتها تحقيق الحرية وتوفير السعادة للبشر علي الأرض ويضيف الكاتب موضحا أنه لابد للتاريخ المكبوت أن ينفجر بكل قبحه وصديده الطائفي والمذهبي والعرقي والقبلي ويشبع انفجارا وبعدها يمكنه أن يتنفس الصعداء والتقدم إلي الأمام.. ويتساءل المفكر السوري.. هل يعقل أن تحدث انتفاضات تعيد العرب إلي الوراء بدلا من أن تدفعهم إلي الأمام؟! وهل يعقل أن تؤدي الثورات إلي أنظمة إخوانية في مصر وتونس وليبيا وسوريا؟! ويجيب بأن هذه المرحلة حتمية وهذا هو مكر التاريخ وفق هيجل لذلك سيكتوي العرب بنيران النظام الإخواني لفترة من الزمن ولكن بعد سيطرته وبعد تطبيق برنامج معاد للحريات عموما وفاشل علي الصعيد السياسي والثقافي والتعليمي خصوصا سيشهد ردود فعل من الشعوب العربية بعد أن تضيق ذرعا بإكراهاته وقيوده الشكلانية والماضوية ثم سيتم تحجيمه بعد أن ينكشف زيف رجاله وبعد أن تنكشف محدوديتهم وتزول الهالة التي تحيط بهم والتي جعلت الجماهير الفقيرة تصوت له. أليس ما جاء به المفكر السوري هو بالفعل ما حدث في مصر وتونس؟! إن التصويت بنعم علي الدستور في مصر بنسبة عالية تجاوزت98% يؤكد أن الجماهير أدركت الخطورة البالغة علي هوية الشعب وكيان الدولة وتماسك المجتمع من حكم الاخوان البغيض والذي استطاع بغباء سياسي نادر أن يقلب علي كل مؤسسات الدولة وغالبية النخب السياسية والجماهير العريضة.. أليس هذا هو مكر التاريخ الذي تحدث عنه هيجل؟! أما في تونس فيبدو أن الأحداث في مصر نبهت الإسلاميين في حزب النهضة حتي أنهم وافقوا علي إسقاط حكومتهم برئاسة العريضي واستبدالها بحكومة تكنوقراط كما طالبت المعارضة, كما وافقوا علي تبني الدستور الجديد لبنود لم يكن ممكنا أن يوافقوا عليها في السابق مثل حرية الاعتقاد وهو موجود بالطبع في الدستور المصري.. أما المادة التي صادق عليها المجلس التأسيسي التي تنص علي تحريم التكفير دستوريا وبصفة رسمية ونهائية لا تقبل التراجع فهي خطوة أولي من نوعها في العالم العربي والإسلامي وتبني هذه المادة في دستور تونس جاء إثر تهديد بالقتل تلقاه أحد نواب المعارضة بعد تكفير نائب عن حركة النهضة له.وفي اعتقادي فإن الدستور المصري سوف يتبني لاحقا مثل هذه المادة فوجودها كان يمكن أن يمنع اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ وتكفير المفكر العظيم نصر حامد أبو زيد والكثيرين من أصحاب الفكر المستنير ولا شك أن تبني مثل هذه المادة خطوة رمزية يبني عليها فيما بعد ولا يمكن الحسم بأنها سوف تمنع نداءات التكفير التي يطلقها التكفيريون والظلاميون ضد كل من ينادي بتفعيل استخدام العقل, فغالبية التنظمات الإسلامية في مصر وتونس ودول عربية أخري قد أعلنت منذ فترة طويلة استهتارها بالقوانين والدساتير واحتكامها فقط إلي شرع الله! ويخلص الكاتب إلي القول إن الحداثة العربية المقبلة ستكون محطة تفكيك الثوابت الموروثة من خلال القيام بنقد راديكالي للعقل التقليدي والقراءة المتعمقة لفلاسفة التنوير سواء في العالم العربي أو الغرب الأوروبي.. وينبغي علينا أن ندرك أن ثمنا باهظا ينبغي دفعه في أثناء عملية الانتقال من القدامة إلي الحداثة وأن نزفا تلقائيا سوف يحدث وتضحيه بالكثير من اليقينيات المطلقة والمعصومات ولابد من معاناة الألم والانفصال كما يقول هيجل عن الذات التراثية المتغلغلة في العروق وأخيرا فإن ما يحدث اليوم في العالم العربي ليس كله شر فلولاه لما اكتشف الناس الذين يصنعون التاريخ معني الخير ولما تأمل هؤلاء في أن للشر إيجابية ستكشف أن عذابات الشعوب العربية وتضحياتهم لن تذهب سدي. د. عماد اسماعيل