لكي نفهم أهمية ومغزي الجولة الأخيرة لوزير الخارجية في دول حوض النيل لابد أن نعي جيدا أنه منذ فجر التاريخ كان الهاجس الدائم للعقل المصري يتمثل دائما في خوف مستمر من خطر ماثل في أن تستطيع حركة رمال الصحراء أن تفرض إيقاعها في النهاية بزحف يماثل في خطره ما تحدثه الفيضانات العالية من دمار أو الفيضانات المنحسرة من خراب.. وأيضا كان هناك خوف محتمل من أن تؤدي المطامع الاستعمارية أو المتغيرات السياسية الإقليمية من انقلاب علي المعادلة القانونية بتوزيع حصص مياه النيل. وكانت عظمة بصيرة العقل المصري تكمن في الإدراك المبكر أن الصراع مع النهر لابد أن يوظف في النهاية لخدمة هدف الصراع مع الصحراء.. و أيضا كان هناك إدراك- منذ بداية العصر الحديث- لضرورة توظيف دور مصر السياسي في حماية حقوقها التاريخية في مياه النيل. ومنذ فجر التاريخ والعقل المصري يخوض هذه المعركة المزدوجة دون كلل وحسب الإمكانات المتاحة.. والهدف في النهاية هو ضبط إيقاع النهر والسيطرة علي كل قطرة ماء تصل إلي مجراه لكي تتدفق إلي الصحراء فتوقف زحف رمالها وتنبت الزرع من بطنها وتتخذ من الزراعة قاعدة صلبة للنشاط الصناعي والتجاري. وربما يفسر هذه الفلسفة والحكمة النابعة من الذكاء الفطري للعقل المصري القديم اهتمام القدماء من قبل عصر الملكة حتشبسوت ببناء الأساطيل التي تحمل السلع المصرية ذهابا وتعود ممتلئة بالذهب والفضة إيابا. لقد كان العقل المصري- علي طول التاريخ- يملك رؤية ثاقبة في عدم السماح لمتطلبات صراعه مع النهر أو الصحراء أو تحديات المتغيرات السياسية في دول حوض النيل أن تؤثر في حصة مصر من مياه النهر تحت أية دعاوي تحريضية. ولعلنا نتذكر من بعض ما قرأناه في صفحات الكتب التاريخية التي رصدت تلك الفترة المهمة من عمر هذا الوطن كيف وقف وجهاء مصر وعلماؤها لكي ينبهوا ويحذروا من مخاطر الأمر العجيب الذي أصدره محمد علي والي مصر ومؤسس دولتها الحديثة للمهندس الفرنسي دبيلفو بأن ينزع أحجار الأهرام ليستخدمها في بناء مشروع القناطر الخيرية التي كانت إحدي محاولات العقل المصري لترويض النهر والسيطرة علي مياهه والبدء في تنفيذ نظام الري الدائم في منطقة الدلتا لأول مرة في تاريخ مصر. وغدا نواصل الحديث..
خير الكلام: عمر المرء ليس رقما في عداد الزمن وإنما بمقدار إقباله علي الحياة! [email protected] المزيد من أعمدة مرسى عطا الله