هذا الصراع الدبلوماسي الذي تخوضه مصر هذه الأيام من خلال جولة وزير الخارجية في دول حوض النيل من أجل ضمان الحفاظ علي حقوق مصر التاريخية في مياه النيل هو امتداد لصراع تاريخي منذ آلاف السنين. والحقيقة أن كل سجلات التاريخ تؤكد أن العقل المصري لم يتوقف منذ آلاف السنين عن مصارعة الطبيعة من أجل تحقيق طموحاته في حياة أفضل, وأن العقل المصري ظل- علي طول التاريخ- يفكر ويجتهد ويبحث في كيفية السيطرة علي حركة ومنسوب المياه في النيل, باعتبار أن النهر هو صانع الحياة الأساسي لهذا الوطن. كانت لدي العقل المصري - علي الدوام - هواجس مزمنة من النهر, لأنه إذا زاد فيضانه كان خطرا مدمرا, وإذا انحسرت مياهه كان وبالا علي الزرع والضرع معا.. ولم يكن بناء السد العالي في الستينيات من القرن الماضي إلا حصاد ونتاج جهد متصل لما يزيد علي ستة آلاف عام. وتدل الكتابات علي المعابد والنقوش علي الأدوات والأواني الفخارية في العصر الفرعوني, ثم ما كتب بعد ذلك في عصور الإغريق والرومان والعرب أن صراع العقل المصري مع النهر من أجل ترويضه وتحقيق أعلي قدر ممكن للاستفادة من مياهه لم يتوقف طوال آلاف السنين. والتاريخ يقول لنا إن المصريين القدماء كانوا أول من شيدوا السدود في العالم بأسره, عندما أقاموا سد الكفرة علي أحد الوديان القريبة من حلوان, واختاروا للسد أفضل أنواع الأحجار المعروفة باسم أحجار الصوان لكي يتمكنوا من تخزين نصف مليون متر مكعب لاستغلالها في مياه الشرب وأعمال المناجم. وكان قدماء المصريين أيضا أول من ابتدعوا نظام قياس المياه لتحديد منسوبها ارتفاعا أو انخفاضا! وإذا كان مقياس الروضة يعود تاريخ إنشائه إلي عام700 ميلادية ومازال بناؤه شاهدا علي عبقرية العقل المصري حتي اليوم رغم توقف استخدامه بعد بناء السد العالي. إلا أن هناك عشرات المقاييس التي أقيمت في فترات التاريخ المتعاقبة قبل العصر الميلادي. وكان صراع العقل المصري مع النهر في إطار طموحاته المتصاعدة مرتبطا دائما- بشكل أو بآخر- بصراع مماثل مع أهم خطر من أخطار الطبيعة المحيطة بنا وهو خطر الصحراء, أو أي خطر من أخطار السياسة وتقلباتها الدائمة إقليميا وعالميا! وغدا نواصل الحديث.. خير الكلام: كل الرجال أنصارك إذا أجزلت العطاء... وأقرب الناس خصومك عندما يتوقف العطاء! [email protected] المزيد من أعمدة مرسى عطا الله