جزء كبير من التأثير العام لشبكات التواصل الاجتماعي( فيسبوك وتويتر وغيرهما) يرجع بصورة أساسية لدورها فيإعادة توزيع السلطة علي انتاج المعرفة وتداولها خارج قنوات السيطرة التقليدية ولمصلحة جيل رقمي جديد ونخبته علي حساب جيل تقليدي ونخبته.فعندما ظهرت هذه الشبكات في السنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين,وجد فيها معظم الشباب في العديد من دول العالموطنا بكرا يهاجرون إليه بديلا عن دولة الكبار وكل ما تمثله من سلطة أيديولوجية خانقة علي القيم والأفكار والعقول. لكن ما بدأ بالرفض والهجرة الرقمية انتهيبالعودة ثم الصدام مع هذه السلطة والصراع معها, فيما يمكن أن نطلق عليه النسخة الرقمية من التكفير والهجرة. حدث ذلك في مصر في الدعوة والحشد والتغطية الإعلامية البديلة لإضراب6 إبريل وأحداث المحلة في.2008 وحدث أيضا في إيران أثناء أزمة انتخابات الرئاسة هناك في2009 وما صاحبها من اضطرابات. وكان هناك موقف في في هذه الأثناء له بعض الدلالات المتصلة بسياق الحديث هنا. ففي حوار له مع قناة الجزيرة تعليقا علي الأزمة الانتخابية في إيران2009, قال الكاتب محمد حسنين هيكلإن هناك آلاف المواقع علي تويترأنشئتقبل أيام قليلة من الانتخابات الإيرانية وكان الهدف منها إرباك النظام وتأجيج الغضب ضد النتائج التي ستعلن, وأضاف أنكثيرا من هذه المواقع انطلق من إسرائيل. كان ما قاله هيكل صحيحا في معظمه. وقد فعلت وزارة الدفاع الأمريكية نفس الشئ في ليبيا في2011, عندما استخدمت تقنيات متقدمة لإنشاء وإدارة آلاف الحسابات المزيفة علي تويتر علي أنها لمواطنين ليبيين يقولون بأن نظام القذافي يرتكب مجاذر ضد شعبه ويطالبون العالم الخارجي بالتدخل لإنقاذهم من هذا النظام.( وقد ناقشنا سابقا هذا الموضوع وغيره بالتفصيل تحت عنوان صناعة الكذب: تضليل الرأي العام علي شبكة الإنترنت).ولم يحاول الشباب علي شبكات التواصل الاجتماعي في وقتها التأكد أولا من صحة كلام هيكل من عدمه, فجاءت تعليقاتهمتحمل نقدا شديدا وسخرية حادة مما قاله عن شبكات التواصل الاجتماعي.فسخروا من وصفه ل حسابات تويتر ب المواقع, وقالوا أيضا كلاما آخر أكثر حدة لا يمكننا الاستشهاد بنصه هنا, لكنه يحمل نفس المعني: إن هذا الجيل الرقمي يرفض أن يتدخل جيل الكبار( سنا) في شؤون دولته( الافتراضية) بأي شكل من الأشكال وحتي لو كان رأيا, ولا يتقبل أن يتكلم الكبار عن تكنولوجياتنتمي بشكل أو بأخر لجيل الشباب الذي يري أنهاتتيح له فضاء هو أحد القنوات القليلة التي يعبرون من خلالها عن أفكارهم وهمومهم وغضبهم بعيدا عن السيطرة المؤسسية والحكومية علي تيار المعرفة والمعلومات الذي يتفقد من خلال القنوات التقليدية: صحف( ورقية) وإذاعة وتلفزيون. وفي نفس هذا الوقت تقريبا من2009, كانت هناك أيضا مواقف مشابهة وتعليقات وحوارات أكثر حدة بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي مع صحفيين وكتاب محسوبين علي دولة الكباركانوا قد بدأوا في استخدام هذه الشبكات في هذه الفترة. وظهر من هذه الحوارات أننا أمام بداياتصراع بين جيلين مختلفين, ليس فقط بحساب السنوات ولكن أيضا بحساب نوع التكنولوجيا الذي أثرت في تشكيل الوعي العام لكل جيل. الجيل الأول تشكل الجزء الأساسي من وعيه بالتلقي والاستقبال في بيئة ساد فيها نوع من التكنولوجيا يتيح لقلة في قمة الهرمتوجيه عقول الأغلبية في باقي الهرم من خلال السيطرة علي معظم بوابات المعرفة والمعلومات والأخبار, إن لم يكن كلها, متمثلة في وسائل الإعلام التقليدي من صحافة وإذاعة وتلفزيون وحتي شبكة الإنترنت في موجتها الأولي.أما الجيل الآخر فقد ولد رقميا شكل وعيه بنفسه خارج القنوات والآليات التقليدية عن طريق إعلام بديل يقوم علي التفاعل والمشاركة تساعده في ذلك تكنولوجيا أحد أهدافها الرئيسية هو إزاحة النخب التقليدية وتمكين الجماهير والتي تمثلت في الموجة الثانية من شبكة الإنترنت من مدونات وقنوات لتبادل الصورة والفيديوهات( يوتيوب وغيره) ثم أخيرا شبكات التواصل الاجتماعي( فايسبوك وتويتر وغيرهما).فكان الصراع في حقيقته صراعا بين وعي تقليدي ثبت جذوره في أرض الواقع ووعي آخر بديل يتشكل في فضاء افتراضي: تكنولوجيا ضد تكنولويجا وإعلام ضد إعلام وأفكار ضد أفكار ونخبة ضد نخبة. هذا الصراع ظهرت بداياته في الدعوة لإضراب عام والاضطرابات التي صاحبته في المحلة في2008, واتسع نطاقه في2010 بعد مقتل خالد سعيد وما أفرزه من تداعيات, ثم وصل إلي ذروته في أحداث ثورة25 يناير في2011, بعد أيام قليلة من وصول صراع مشابه في تونس إلي ذروته. وهناك من يري أن ما حدث ومازال يحدث في بعض الدول العربية هو في جزء كبير منه صراع بين الأيديولوجيا متمثلة في الكبار والتكنولوجيا متمثلة في جيل الشباب. وللمفكر السوري جورج طرابيشي رأي يفصل هذا التفسير مؤداه: أن جيل الشباب أسقط الأيديولوجيا عن طريق التكنولوجيا, وأن الأنظمة العربية التي سقطت أو التي هي قيد السقوط أنظمة سدت أفق التطور ولجمت حركة الواقع وحركة التاريخ قامت علي تعبئة أيديولوجية مخيفة للمجتمعات, أيديولوجيا ثابتة وغير قابلة للتحول أو التغير, لكن الشباب قاطع هذه الأيديولوجيات ولا يملك خلفيات أيديولوجية, هو انطلق منالقدرات التي وفرتها التكنولوجياالحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي ليسقطوا أنظمة, فكانت أول مرة تنجح التكنولوجيا في إسقاط الأيديولوجيا. لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم( الإمام علي بن أبي طالب)