ليس المستقبل قدرا محتوما لا يملك الإنسان حياله خيارات القدرة وإمكانيات التأثير والتجدد. إنه عالم قابل للصياغة والتشكيل بقوة دفع الرؤية والرؤيا اللتين تصنعان بإرادة الحالمين والرافضين والمعترضين والقلقين الذين يملكون حيوية العيش المتطلع إلي غد أفضل. لكن السؤال الأساس الذي يجب طرحه في هذا السياق: كيف السبيل إلي فتح الطريق إلي هذا المستقبل, وما هي القرارات والإجراءات والتوجهات التي يجب اتخاذها واعتمادها في هذا السبيل لوضع قطار الإرادة بالتقدم علي سكة الغد؟ لقد ثبت بالوجه اليقيني, واستنادا إلي تجارب الشعوب التي سبقتنا إلي رسم صورة مستقبلها, وعملت علي تحويل الأحلام والأمنيات والتطلعات إلي حقائق ووقائع, أن السبيل إلي استشراف مستقبل مشرق نودعه توقنا إلي مجتمع يعيش حالة تنمية مستدامة وحضور فاعل علي مختلف المستويات, لن يكون إلا وفقا لمجابهة تحديات العصر وفتح مسارات التنمية التي تؤول إلي تحقيق المرتجي; وذلك من خلال: اتباع المنهج العلمي في تحديد مشكلاتنا القائمة والمتوقعة, ونقاط الضعف والعثرات والثغرات التي تحبط تطلعنا إلي المستقبل, وتوفير قاعدة معلومات لعمليات التخطيط وصناعة القرار, بعيدا من الترهات والأوهام والتخيلات, واستنادا إلي واقع الموارد والقدرات المتاحة وسبل استثمارها وتوظيفها والاستفادة منها, والبني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وآفاق تحديثها, والحاجات الموضوعية وإمكانيات تحقيقها, والتطورات العالمية في مختلف الميادين وضخامة تحدياتها, بحيث يؤدي وعينا لكل ذلك والتفاعل معه من منطلق الإقدام والانخراط في صناعة المستقبل عن سابق تصور وتصميم, بالفعل لا الانفعال وبالفاعلية لا المفعولية, إلي بلورة رؤيتنا للغد بعيون مفتوحة علي العالمين, وبإرادة الحفاظ علي مصالحنا وثرواتنا وهويتنا من غير انغلاق أو تقوقع أو انكفاء. وهذا يعني أننا لسنا في وارد الحديث عن مجرد حلم بالمستقبل العربي, بل في معرض اعتماد مصطلح مستخدم في قاموس العصر, هو علم المستقبل الذي يقوم علي القراءة العقلانية والعملانية للأمور, وإن كان المستقبل هو عالم الاحتمالات وليس عالم اليقين. فالمنهجية العلمية لا تنفي الحاجة إلي التفكير الجريء ومحاولة الاختراق وصياغة الواقع الافتراضي ووضع البدائل والخيارات الممكنة; وهذه هي عدة كل إبداع وتجديد وتطوير. صون إرثنا الثقافي وإنماؤه, وهو علي كل حال إرث غني ومتنوع وضارب الجذور في الإرث الحضاري للبشرية. إن مقاربة الاهتمامات الثقافية العربية المشتركة, تحت سقف صونها وإبقائها في حيز الحيوية والتأثير والتفاعل والنمو, ووصلها بتردداتها الإنسانية في العالم, هي فعل إيمان بأن الخصوصية الثقافية التي تعبر بصدق عن الوجدان العالم لأي أمة هي ثقافة مفتوحة علي العالمية في وجه العولمة. تعزيز كل ما من شأنه رفد التنمية الثقافية بعناصر نموها وتطورها وتأثيرها في التنمية المستدامة, وعلي قاعدة أن أية أهداف تنموية لا تتحقق إلا من خلال حماية مساراتها ونتائجها بطوق الثقافة التي بها نستطيع أن نجعل من مشروعاتنا التنموية كافة في خدمة مجتمعاتنا, من دون تسرب أو تعطيل أو تحويل أو استلاب; وذلك لن يتم إلا بالحماية الوطنية لموروثاتنا الثقافية, وتعزيز حضورنا الثقافي بصورة عامة; الأمر الذي يقي وجودنا المطلق بوجوهه كافة من أخطار العولمة والنمطية وقيم الاستهلاك. تعميم التعليم وإلزاميته ورفع منسوب التأثير الثقافي في واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والوطني والقومي, وهي شروط لازمة لوعي الواقع العربي والتفكير بمستقبل بديل من حالة التشرذم والتفكك والانقسام والصراع والأزمات وتدني نسب النمو في جوانب معروفة من جغرافية عالمنا العربي. إن المعرفة تكتسب فعاليتها القصوي في حركية التطوير والتقدم, حين تتحول بفعل الاجراءات العملية التي تطاول تنمية الناس أفقيا وعموديا, إلي سلوكيات وعادات وأنماط تفكير ومقاربات جديدة في حياتهم, أي حين يكتسبون قيما مضافة إلي ثقافتهم المفتوحة علي الإغناء والإنماء. إن التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة, كما يقول رونيمال المدير الأسبق لليونسكو. إن حجم التحديات التي نواجهها ضخم وغير مسبوق في تاريخ العرب القديم منه والحديث. إنها تحديات علمية وتكنولوجية واقتصادية وثقافية ووجودية. ولعل أكثر مشهدياتها سطوعا المشهد التكنولوجي/المعلوماتي, بكل تداعياته وتجلياته, الذي يفرض علينا الإجابة عن سؤال أساس: ماذا يجري حولنا, وكيف لنا أن نواجه ثقافة عصر المعلومات التي نلهث للحاق بركبها وتسارع إنجازاتها وابتكاراتها؟ إن التفاعل مع الثورة الالكترونية يفترض إعادة صياغة منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل مجتمعاتنا, بحيث تسهم هذه الثورة في إنشاء صناعة ثقافية ذات جدوي اقتصادية, وفي تظهير معاصر للتراث الثقافي العربي وإعادة اكتشاف أنفسنا وقراءة دورنا في حركة التاريخ الإنساني من منظور عقلاني لا عاطفي, في سعي متجدد لاسترجاع الثقة بالنفس إلي الإنسان العربي, ووقف هجرة الأدمغة والموارد البشرية الكفوءة والمتخصصة, وإعادة تشكيل الشخصية الثقافية العربية بدون ازدواج في الفكر والانتماء, وتجديد الدعوة إلي وعي سلبيات العولمة وإيجابياتها, وودمقرطة الثقافة عبر تعزيز الانتاجات الثقافية وتعميم فوائدها... ما أحوجنا اليوم إلي بدائل ثقافية حقيقية تضع الثقافة في رأس القائمة الخاصة بتجديد المشروع الحضاري العربي, علي أساس تفعيل قطاعات التنمية المستدامة, وتصليب أعمدة الوحدة الوطنية في أقطارنا العربية, وتعزيز أواصر التكافل والتكامل العربيين, مع الحرص علي العناية بالتنوعات الثقافية ضمن الرؤية الثقافية العربية المشتركة لمستقبل العالم العربي وموقعه, في عالم يقتضي مواكبة تحولاته والانفتاح علي فضاءاته, من دون التفريط بالهوية الثقافية ببعديها الوطني والعربي وما تكتنزه من قيم فكرية وروحية. إن الحديث عن بدائل ثقافية يقتضيها مستقبل عربي مشرق وواعد, هو باختصار حديث عن الإنسان العربي, الذي نطمح إلي أن يكون له الحضور الفاعل علي خريطة الحراك المحلي والإقليمي والعالمي, ثقافيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا. إنسان يستعيد هذه الفاعلية من إرثه الكبير في الحضارة العالمية, ثم يستأنف دوره فيها بالانخراط في اهتماماتها وتحدياتها والإسهامات المتقدمة فيها. لمزيد من مقالات فيصل طالب