تلح علي أسئلة عديدة منسية حول مستقبل الثقافة والإبداع في مصر, في ظل غياب السياسات الثقافية وخططتها التنفيذية, والتي تفتقد في معظم الأحيان للتصورات والأطر المرجعية الحاكمة, وأيضا للأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدي. ولاشك أن القوة الناعمة المصرية قد كسبت نصا دستوريا حاسما في النظر المتردد للثقافة بين مسئولية الدولة وتركها لاقتصاد السوق. وهو نص يستعيد الحالة المصرية المتفردة في فهم الدولة الستينية للثقافة كضرورة وكخدمة مجانية. فالمادة الثامنة بعد الأربعين من مواد المقومات الثقافية تري أن الثقافة حق لكل مواطن, تكفله الدولة وتلتزم بدعمه, وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب, دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك, وتولي اهتماما خاصا بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجا. وتشجع الدولة حركة الترجمة من العربية وإليها. لا خلاف بالتأكيد حول هذا الحق, ولكن التساؤل والتفكير النقدي هنا حول كيفية حدوث ذلك علي أرض الواقع في عالم هو قرية واحدة, وفي وطن لم يعد تكوينه الإقليمي مثل تكوين الدولة والمجتمع في مصر الستينيات.وهكذا تطرح الأسئلة بعضها البعض حول تحديد جودة الخدمة الثقافية, وعن الجهات التي ستقدمها, هل هي مؤسسات وزارة الثقافة بالتعاون مع الجهات المعنية ذات الصلة؟ هل ستحصل مؤسسات الدولة الثقافية علي نصيب عادل في الموازنة العامة للدولة مثلها مثل التعليم والصحة والبحث العلمي؟ وهل يمكن لرأس المال الوطني أن يساهم في دعم الثقافة عبر مؤسسات مستقلة تتجاوز أداء دور النشر الصغيرة والجمعيات الأهلية والمبادرات المعتمدة علي المنح الأجنبية, أو تطوعات المثقف والفنان ذات الطابع المتفاني النادر غير الهادف للربح؟.. الأمر إذن يحتاج لنظرة تأسيسية تقوم علي سياسة ثقافية جديدة, تحترم وتصدق وتؤمن بالفكرة الوطنية العلمية والعملية للثقافة كمصدر من أهم مصادر الدخل القومي. وهي النظرة الجديدة التي يجب أن تفارق الفهم التقليدي للثقافة كعمل معنوي فقط, فالواجب أن تصير الثقافة كنزا صناعيا في إطار مفهوم اصطلاحي جديد هو( الصناعات الإبداعية), فمن مثل مصر يملك الموارد الحضارية الأثرية, وخصوصية الأماكن المتنوعة والبشر المبدع القادر علي جعل الصناعات الإبداعية المصرية مصدرا هاما للدخل القومي وعلامة معنوية بارزة في ذات الوقت, يمكن أن تحيل الثروة الحضارية الثقافية لصناعة كبري. لا يزال بالطبع مصطلح الصناعات الإبداعية مصطلحا غير مألوف, لكنه متداول في الأدبيات الثقافية المصرية كمفهوم يحتوي داخله مفاهيم اصطلاحية مثل السياسات الثقافية والإعلامية والنشر الأدبي والفكري, والمنتجات الإلكترونية الترفيهية ذات الصلة بالفنون, ومنتجات المحتوي الرقمي المعرفي, وحقوق الملكية الفكرية والإنتاج الفني والثقافي والإعلامي.. ذلك أن اقتصاد الثقافة والإبداع أحد أهم روافد الإقتصاد العالمي فعملية إبداع الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة الاضطرارية الذي نعيشه هو المدخل الحقيقي لنمو المدن الكبري وتجديد علاقتها بأطرافها, وهو فاعل رئيس في عملية النمو العام في قطاعات عديدة أخري. فعندما تصبح الثقافة صناعة إبداعية فإنها تحقق غاية أخري هي خلق التقارب بين قطاعات لا ترتبط ببعضها البعض بحكم العادة, مثل الارتباط المحتمل والضروري بين شبكات الطرق والتنسيق الحضاري, وبين شخصية المدن والأحياء السكنية الجديدة, وبين المناطق القديمة كالقاهرة التاريخية, وكالأقصر الفرعونية والأخري الصعيدية. علاقات جديدة بين الثقافة والفنون ورأس المال تدرك أن الصناعات الإبداعية الرقمية الغائبة في مصر هي أكبر روافد الصناعات الإبداعية في العالم المتقدم, مما يتطلب تفكيرا مختلفا يسعي لخلق صناعات إبداعية مصرية تجمع بين المتناقضات التقليدية مثل الجمع بين الفنون البصرية الراسخة وفنون الأداء الشعبية, والرقص والشعر, والمسرح, والسينما, والتليفزيون, والإذاعة, والموسيقي مع الإعلام الجديد الذي يشمل البرمجيات والألعاب والتجارة الإلكترونية والمحتوي الرقمي, وهو ما يستهدف تفكيرا جديدا يجتذب ما هو غير تجاري صرف إلي قطاعات تجارية, لتحقيق الأرباح من الرفيع الثقافي كما يحققها الترفيهي السهل البسيط. هذا لا ينفي ضرورة دعم وتطوير البني التقليدية مثل المسارح ودور العرض السينمائي وطباعة الكتب وغيرها, علينا إذن أن ننظر للثقافة كعمل مربح يساعد علي جذب رأس المال, ويبعد عنه الخوف من التعامل في الصناعات الإبداعية, وهذا الخوف الشديد تأسس علي نظرة الدول الشمولية للثقافة كمصدر للفخر القومي يجب عدم إدماجه في حسابات المكسب والخسارة, والاقتصاد الحر. إن لندن وطوكيو ونيويورك تعمل في مجال الصناعات الإبداعية دون تناقض بين الهوية الوطنية الثقافية, وعالمية الإنتاج الإبداعي وإمكانية تسويقه للعالم كله لأهداف تجارية وثقافية وسياسية أيضا, وتلك المدن تختلف عن وارسو في بولندا وعن ليننجراد مدينة الإبداع الروسية وعن القاهرة مدينة الإبداع العربية في نظرتهم الحذرة للإبداع, ومحاولة الحرص علي الفصل بين التجاري الصناعي وبين رفيع المستوي الممثل للهوية الرمزية, بينما تجاهد بيروت منذ زمن, ولحقت بها دبي والشارقة نحو هذا المفهوم الذي يشجع رأس المال للعمل في الصناعات الإبداعية ذات المحتوي الثقافي والفني المعرفي بشكل تطبيقي نموذجي يشبه مشروع طلعت حرب في دعم الفرق الوطنية للمسرح المصري, وإنشاء ستوديو مصر مما جعل فن التمثيل والدراما في مصر علامة حضارية, ومصدرا هاما للدخل القومي معا, إنها ليست دعوة للتخلي عن رمزية الثقافة حتي لو لم تربح مالا, فهي تعود علينا بعوائد كبيرة في جميع مناحي الحياة, بل حتي تكسب الثقافة أرباحا ننفق منها علي التثقيف العام. كما أنها ليست دعوة للتخلص من مؤسسات الدولة الثقافية, بل تطويرها وتخليصها من عزلتها, وعدم قدرتها علي التعامل مع الكيانات الأخري, وافتقارها لمهارات إدارة الإنتاج الفني والثقافي والقدرة علي وصوله للجمهور المستهدف وللموارد البشرية المرنة المتطورة. فهل يمكن أن نري الأيام المقبلة خططا تنفيذية, تجيب علي أسئلة الأرق الثقافية, وتحول مقومات الوثيقة الدستورية الثقافية لأفكار تطبيقية.. إنها بلا شك ضرورة وطنية, يجب أن تعي مقومات العالم المعاصر الذي ينظر للثقافة كصناعة إبداعية لا تقل أهمية عن الصناعات التقليدية الأخري لصالح الاقتصاد الوطني وللحفاظ علي الهوية الثقافية القومية وللإسهام في الفكر والحضارة الإنسانية. * مخرج وناقد فني لمزيد من مقالات د.حسام عطا