ستة أشهر ونصف الشهر مضت علي موجة الغضب الأولي, التي كان عنوانها حديقة جيزي بارك الشهيرة في تقسيم, والآن تعود من جديد بعنوان مغاير ولكن بذات المضمون وإن كان بشكل أعنف ألا وهو كراهية الحكم بصبغته ليست الدينية فحسب بل كون إردوغان في قلبه. نعم كانت هناك كتابات معادية بشدة لأردوغان غير أن الحاصل فاق كل التصور ولعله شعر بالأسي وهو يري نفسه موضوعا علي علبة سجائر كونه خطرا علي الصحة. بيد أن كاتب تلك السطور ربما يزعم إنها المرة الأولي التي يسمع فيها ألفاظا جانحة بحق زعيم العدالة والتنمية الذي بأت مؤكدا أن سفينة حزبه قد جنحت في انتظار من يسحبها لمرفأ يبتعد يوما بعد آخر, ويالها من سخرية تبرهن علي استبداد الأخير فالرجل الذي هاله ما يأتي لمسامعه أوعز لمرءوسيه اتخاذ اجراءات لوأد تلك الشتائم, فما كان من قوات الشرطة إلا اعتقال المتظاهرين المناهضين للحكومة خصوصا الذين يرددون شعارات استقالة اللصوص وفرض عقوبة مالية قدرها343 ليرة تركية( حوالي170 دولارا) ترسل علي عنوان مسكنه. هذا عن البسطاء العاديين فماذا عن أصحاب الحصانة من أعضاء البرلمان ومنهم من اعلن صراحة أن أردوغان مصيره مثل هتلر؟ وآخر أكاديمي وهو آرتان آيدن, الاستاذ بجامعة شنكاياي وضع أطروحة عنونها بجهود التحول الديمقراطي في تركيا والمبادرة الديمقراطية لم يجد غضاضة في وصف أردوغان بالأكثر ديكاتورية في تاريخ الجمهورية التركية بيد أنه تفوق علي كل من رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس عدة حكومات في ستينيات القرن المنصرم عصمت إينونو(1884 1973) وكنعان أفرين قائد الانقلاب العسكري في سبتمبر1980 ورئيس الدولة في الفترة من1983 وحتي.1989 إذن هي أيام عصيبة يعيشها الشارع التركي, فعلي حد تعبير أحد المواطنين فإن صناع القرار غرقوا جميعا في الفساد, والتغيير الوزاري لا معني له وعلي رئيس الوزراء الاستقالة فورا. وتواصل كرة الثلج التمدد, المعارضة تدعم المظاهرات وتقودها والهدف إزاحة الحزب الحاكم الرابض علي قلوب العباد منذ أحد عشر عاما. وفي منحي مهم ونتيجة لعنف الأمن المفرط, أخذت المظاهرات التي بدأت سلمية في التحول إلي اشتباكات عنيفة في الشوارع والميادين, بين المحتجين وقوات الشرطة. إضافة إلي ذلك, وهو المتغير اللافت بالقياس إلي موجة الغضب الأولي, الانشقاقات التي دبت في أوصال الحزب الذي كان يعتقد أنه عصي علي الانقسام أو التشرذم, وبدأها هاقان شكر نجم نجوم الكرة التركية علي مدار عقد, إحتجاجا ورفضا للهجوم علي الشيخ النوريسي العصامي فتح الله جولين. تلك هي المعضلة لقد انفرط عقد التحالف الذي ربط أردوغان بجولين الداعم الرئيسي للأول من خلال مئات المدارس التابعة له داخل الأناضول وعشرات الصحف والفضائيات المملوكة له أيضا وجميعها سخرت لمؤازرة العدالة الحاكم, غير أن أردوغان لم يعد يطيق حليفه لانتقاداته الكثيرة فقام بإحكام قبضته علي تلك الامبراطورية فما كان من الامبراطور سوي إعلان الحرب علي رفيقه الذي لم يعد مخلصا. ثم جاءت استقالة وزير الداخلية السابق إدريس نعيم شاهين, الذي شعر بالظلم, لإزاحته من منصبه سريعا بلا سبب سوي أن مزاج رئيس الحزب رأي ذلك. ولا أحد ينسي كلماته بعد أن فوجئ بإقالته لنظيره الجديد معمر جولير اتمني لك أن تمضي فترة اطول في منصبك, وهو ما لم يتحقق إذ تقدم باستقالته بعد أن تم القبض علي ابنه في فضيحة الفساد التي لم تشهد مثلها الجمهورية الكمالية علي مدار عقودها التسع. وفي ضربة قاصمة غير متوقعة, دعا وزير البيئة والعمران أردوغان بيراكدار, بعد أن أعلن استقالته, رئيسه للاستجابة لنداء شعبه وإعلان إنسحابه ليس من السلطة بل من الحياة السياسية برمتها. ولأن الدائرة تتسع, فقد تبين أن الفساد متغلغل في منزل الحاكم وقيل قبل شهور أن زوج ابنته ضالع هو الآخر في صفقات مشبوهة غير أن المفاجأة تمثلت في الابن بلال اردوغان. وهنا مفارقة, فمنذ أقل من عقد كان الشاب اليافع ذو الثماني والعشرين عاما, حديث الصحافة والتليفزيون, عندما احتفلت إسرته بزفافه, حينذاك ظهر الخجل عليه وعلي عروسه الشابة المحجبة وفقا لتقاليد العائلات المحافظة, حينما هم رئيس الحكومة الإيطالية سيلفيو بيرلسكوني المدعو للحفل, بتقبيل يدها وعبثا حاولت سحب يدها دون جدوي, هنا راحت الميديا تكرر المشهد, ورغم هذا بدا الحدث سعيدا وسط فرحة قطاع عريض من المواطنين الذين تمنوا السعادة للزوجين وتمر السنوات ليستطقظ هؤلاء علي صورة من أحبوه وقد اكتسي وجهه بلحية, في إحدي الصحف منعوتا بطريد العدالة بعد أن ورد اسمه في فضائح فساد اعتمادا علي نفوذ والده. وتبقي واقعة لها دلالتها رغم أنها صارت ذكري, فقبل خمس عشرة سنة تقريبا إنقلب الصديقان عبد الله جول واردوغان علي أستاذهما ومعلمهما ومدشن الأحزاب الإسلامية الراحل نجم الدين أربكان(1926 2011). ولكبر سن الأخير أصدر جول بعد أن صار رئيسا للجمهورية عفوا عن أربكان بعد أن صدر بحقه حكم قضائي نهائي بالحبس سنة لتلاعبه في عدة ملايين من الليرات, وتدور الدوائر.