ثمة بشر يعتقدون أن زمنهم هو فقط حياتهم علي الأرض, فيندمجون في نزعة دنيوية, لا يحققون معها سوي سعادة لحظية. وفي المقابل, هناك من يعتقدون بامتداد زمنهم إلي ما بعد عالمنا, حيث عالم الغيب الذي فيه تتحقق السعادة الأبدية, ولذا يتوجب انتظاره والعمل لأجله وحده. وهناك فريق ثالث يبحث في الزمن عن بعد ثالث( تاريخي) لا يذوب معه الإنسان في وقائع الحياة اليومية, ولا ينتظر حالما بتفاصيل الحياة الأبدية, بل تحركه رغبة الخلود داخل التاريخ البشري نفسه, وهئولاء هم القلة المبدعة من البشر, الذين لا يموتون بموت الجسد إنما يدخلون دورة حياة جديدة, بل إن البعض منهم تبدأ حياته الحقيقية بعد موته العارض, إذ يتراجع غيابه الجسدي أمام حضوره الرمزي, طالما استمر ملهما لوجودنا, ومحفزا لنضالاتنا ضد الطغيان النازع إلي التحكم بمصائرنا. ولعل أحد أبرز هئولاء الذين هزموا الغياب بالحضور, والجسد بالروح, هو المفكر الكبير إدوارد سعيد, الذي عاش حياته بهويه جامعة تداخلت فيها عناصر شتي, متناقضة أحيانا, لا تجتمع الا عنده, ولا تتكامل الا فيه فكأن حياته مرآة لهويته, وهويته الهاما لحياته حتي غيبة الموت قبل عشر سنوات خلت, وبعد رحلة حياة امتدت الي سبعة عقود, عاش العقد الأخير منها في صراع شرس مع المرض الخبيث قبل أن يذوي جسده النحيف, من أسفل العقل القوي المستنير الذي حمل عبء النضال الأخلاقي والسياسي الطويل, مغيبا ذلك الوجدان الذي امتزجت داخلة الهويات كلها من عربية نبتت في فلسطين ونمت في لبنان وتفتحت في القاهرة, الي أمريكية أينعت وازدهرت عبر مراحل الدرس والتدريس, وبين الأساتذة والزملاء والطلاب في جامعة كولومبيا حيث تعلم الأدب المقارن واستوعبه ثم وسع مداركه حتي بلغ به أفق النظرية الثقافية, مندفعا كجل العقول الكبيرة الي الفضاء الفكري الانساني الرحيب عبر الكثير من المحاضرات والسجالات التي سجلت نزوعه الانساني المتعلق باسمي مثل التنوير كالعدل والحرية والسلام, والرافض للتيار العنصري في الثقافة الأوروبية, ذلك الذي استبطن نزعة التمركز حول الذات الغربية وتورط في وحل الحقبة الكولونيالية التي نالت من كل شعوب الدنيا اقتصاديا وسياسيا بزعم دنوهم أخلاقيا أمام الشعوب الأوربية المسيحية ذات الرسالة الالهية/ الكونية, والتي اضطلعت بمهمة ترقية الانسانية البدائية خارج إطار المدنية الغربية. وبجانب سجالاته ومناظراته شبة اليومية علي صفحات الجرائد والمجلات وأمام حضور لقاءاته ومحاضراته سجل ادوارد سعيد نزعته الانسانية تلك بين دفتي عشرات الكتب, والتي يبقي من بينها كتابان محوريان في فكر القرن العشرين, وربما ظلا كذلك في الحادي والعشرين: الكتاب الأول هو الاستشراق, الذي صدر عام1978 ليثير موجة من التأمل وإعادة المراجعة لكثير من أدبيات الثقافة الغربية التي كانت قد ترسمت وأخذت مواقعها المعرفية المستقرة وصار لها تاريخها الذاتي في بحث أصول وتمثل وجوه الثقافة العربية الإسلامية, حيث يعرف سعيد الإستشراق بوصفه' تلك المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق: بإصدار تقريرات حوله, وإجازة الآراء فيه وإقرارها, وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه, وحكمه. وبإيجاز, الإستشراق أسلوب غربي للسيطرة علي الشرق, واستبنائه, وامتلاك السيادة عليه'. ورغم تأكيده أن هذا هو المنوال الذي نسجت عليه أغلب أعمال المستشرقين حول الثقافة العربية الاسلامية لصناعة صورة نمطية آخذت تتشكل منذ قرون, وتترسخ منذ القرن الثامن عشر دونما تساؤل جذري حول مدي صحتها أو حول آليات تشكيلها ومصادر انتاجها, فإن سعيد يفرق تاريخيا, وثقافيا, كميا ونوعيا بين نمط الإستشراق الفرنسي البريطاني, والنمط الاستشراقي لأي من الدولة الأوروبية أو الأطلسية الأخري وضمنه الإستشراق الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما النمط الأول( البريطاني الفرنسي) فهو النمط الرئيسي لهذا التصورات الإختزالية المتوارثة والمقننة التي طالما تحدثت عن فضاء استشراقي واسع يضم عوالم متباينة تباين الخيال نفسه, تجمع بين الهند وشرقي المتوسط بأكمله, ونصوص الكتاب المقدس, وأقاليمه, وتجارة التوابل, والجيوش الاستعمارية, والتراث الطويل من الإداريين الاستعماريين, وقدرا ضخما من تراث البحث, وأعداد لا تحصي من الخبراء والمساعدين الشرقيين, وجهاز أستاذية شرقية وكوكبة من الأفكار الشرقية' الإضطهاد الشرقي, والأبهة الشرقية, القسوة الشرقية' وعددا كبيرا من الملل والفلسفات والحكم الشرقية المدجنة للإستخدام المحلي الأوروبي. أما النمط الثاني فيتداخل فيه نمط فرعي انتمي تاريخيا لدول أخري لم تكن قريبة من عالم الشرق إلي هذه الدرجة التي توافرت لبريطانيا وفرنسا مثل ألمانيا وإيطاليا, وإن كان قد نسج علي منوال يقترب من منواليهما. أو نمط فرعي آخر تنامي بعد الحرب العالمية الثانية وهو النمط الأمريكي منذ سيطرت الولاياتالمتحدة علي الشرق, فصارت تتناوله كما تناولته فرنسا وبريطانيا ذات يوم, أي بنفس الإساليب التجزيئية, والصور الاختزالية, وإن كان عبر وسائل جد مختلفة, لا تعول علي كتابات الرحالة ولا أعمال الروائيين, ولا السير الذاتية لكبار الدبلوماسيين, بل تعتمد علي دراسات المناطق, وجهود الخبراء المنتمين مباشرة للحقل السياسي, والأقرب صلة بتوجهات الهيمنة الاستراتيجية, والذين يعملون, صراحة أو ضمنا, في ظل وتحت رعاية المؤسسات الرسمية. ما فعلة إدوارد بالضبط هو تحليل الأعمال الأدبية المنتمية خصوصا للنمط الأول من الإستشراق, وطرح الأسئلة العديدة خصوصا حول النمط الإستشراقي الثاني, فأطلق موجة من المراجعات داخل كثير من الثقافات الفرعية في الغرب والشرق علي السواء, أنتجت منذ الثمانينات نزعة انسانية نقدية, وجدت لها أصداء في الثقافة العربية, أخذت تسعي الي فحص وتأمل موقفها التاريخي من الغرب انطلاقا من معايير موحدة ومستهدية بمرجعية شاملة من قيم الحرية والعدالة والسلام, وإلي كشف التناقضات العميقة في الثقافة الغربية بين خطابها الفلسفي وممارساتها العملية, وهي النزعة التي مكنت إدوارد سعيد نفسه من أن يكون عربيا فلسطينيا يدافع عن قضيته المركزية علي بعد خطوات من الكهف الصهيوني وعلاقاته الأخطبوتية بالمجتمع الأمريكي, دون أن يقع في تناقض مع هويته الرسمية كمواطن أمريكي, اذ مكنته انسانيته النبيلة, ومرجعيته المتسقة من التوفيق دوما بين هذه وتلك. وأما ثانيهما فهو كتاب' الثقافة والامبريالية' الذي وصل فيه إدوارد سعيد الي ذروة الحس الانساني في مواجة تيار المركزية الغربية, الذي شكل تدريجيا منذ القرن الثامن عشر نسقا فكريا كاملا متمركزا حول ذاته, استند إلي نتاجات بعض العلوم الحديثة وخاصة في حقلي الأنثروبولوجيا, واللغات, في تقديم نظريات ذات منحي عنصري واضح استهدفت تحقيق أمرين أساسيين: أولهما هو صياغة ذات غربية متطهرة, وموحدة, ومتجانسة, مستمرة في كل الزمن, وحاملة لأسمي القيم وعلي رأسسها الحرية, ومرتكزة علي عقلانية تلهمها مصادر التراث الغربي وعلي رأسها المعجزة الفلسفية اليونانية, وذلك دونما تناقضات أو حتي انقطاعات في هذه المسيرة الممتدة منذ خمس وعشرين قرنا من الزمان. بل ويشرح سعيد كيف تم استثمار نظرية' الكيوف الأرسطية' وتوسيعها من جانب, واختزالها من جانب آخر بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق الإنسان الغربي. وثانيهما هو صياغة ذات نقيض تعج بكل ما هو سلبي للآخر الذي يعدو مزيجا من رزائل التخلف, والغريزية, والقهر, وذلك بوضع أو تبرير وجود حدود' عرقية' بين الغرب والآخرين كما دعا أرثر دو جوبينو مثلا مؤكدا علي التفاوت بين الآريين وشتي الأعراق الأخري. وقد أضاف نيتشه وهيجل إلي هذه الحدود العرقية, طبقات فلسفية أعطتها أبعادا أرقي وأخطر كرست للتفوق العقلي أيضا وليس العرقي فقط. كما أضاف اليها أرنست رينان طبقات لغوية سعت إلي وصم اللغة العربية/ السامية بالتخلف والقصور عن مجاراة اللغات الآرية, فتعالت هذه الحدود تدريجيا حتي شكلت إيديولوجيا متكاملة ادعت عبر توليفات نظرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف بسمو الغرب عرقيا ودينيا وفكريا, وبوجود جدران عالية وحوائط فاصلة بينه وبين الشرق لا يمكن عبورها إلا بإعادة تربية هذا الشرق ومدينته, ولو عبر احتلاله واستيطانه. وينطلق سعيد من نقد المركزية الأوروبية الي نقد الإمبريالية الأمريكية( الجديدة) ضد العالم كله وليس العرب وحدهم مؤكدا علي التعددية الثقافية كوجة آخر للحرية الانسانية, وعلي ضرورة التفاعل الثقافي السلمي لانماء الانسانية وازدهارها دونما تعال عنصري أو ادعاء بالرسالية التي تعدو وجها آخر للإمبريالية تهدد قيم السلام بين الشعوب, والعدل بين البشر بل وتفسد المجتمعات الغربية نفسها. وهنا يصل ادوارد الي جوهر التنوير الغربي علي طريقة كانط الذي اعتقد عند صياغته لمثل الحداثة السياسية بأن التاريخ مدفوع الي الرقي ولكن ذلك لن يتحقق الا اذا تأسست منظومان قانونيتان تسيران جنبا الي جنب, احداهما تسير الشئون الداخلية للمجتمع الواحد علي أساس من الحرية والعدل وصولا الي الديمقراطية, والأخري تنظم العلاقات بين الأمم علي أساس من العدالة والتكافؤ وصولا الي السلام, مؤكدا علي أنه لا يمكن تحقيق الحرية داخل الأمم اذا لم يتحقق العدل والسلام بين هذه الأمم, ولذا كان الرجل, وعير عقود طويلة, أحد أبرز العقول التي منحت الثقافة العربية وجها انسانيا, ودافعت عنها انطلاقا من قاعدة صلبة ومتسقة من القيم التقدمية, في واحدة من مراحلها الصعبة, ولهذا سيبقي جزءا من ذاكرتها الحية والملهمة علي, علي رغم الرحيل الذي يمر عليه اليوم عقد من الزمان لمزيد من مقالات صلاح سالم