يقول بعض الباحثين ممن لا رغبة لديهم في الزواج أن السبب في امتناعهم أو نفورهم من الزواج أنه يشغلهم عن البحث عن الحقيقة, ومتابعة السير في طريق الحكماء- وهم مثل الغالبية العظمي من الفلاسفة لا يريدون شيئا يلهيهم عن أبحاثهم. والواقع أن خطورة هذا الادعاء أنه يحرض الشباب الراغب حقا في الدراسة والبحث علي الإضراب عن الزواج, لاسيما إذا وجدوا أمامهم أسماء لامعة من أمثال ديكارت, وشوبنهور ونيتشه..إلخ. سبقوهم إلي هذا الإضراب!. وعلي الرغم من أن ديكارت(1596-1650)..R.Dscartes الأب والمؤسس للفلسفة الحديثة- لم يتزوج ربما بسبب ضعف بنيته واعتلال صحته- وربما لميله إلي حياة التأمل والتفكير الهادئ كما يري البعض لكنه مع ذلك كله كان رجلا يحب الحياة ويتفاعل معها. والمهم أنه كان يحلو له الحديث مع النساء. ولا يحجم عن مبارزة الرجال من أجل سيدة يهواها, ولا يتحرج أن يتصل ببعض السيدات اتصالا غير شرعي وأن يولدهن أولادا غير شرعيين أيضا علي نحو ما سنعرف بعد قليل! ولقد كانت لديكارت علاقات نسائية كثيرة نبدأ بأكثرها خطورة وهي علاقته غير الشرعية. في عام1633 استقر ديكارت فترة بمدينة ديفنتر..Deventer وكانت طوال هذه الفترة تعمل عنده خادمة تدعي هيلين هانز..HelenHans وكان يعاشرها معاشرة الأزواج حتي حملت وأنجبت له طفلة سماها فرانسين..Francine وفاء لذكري بلاده ووطنه كما يقول بعض الشراح. ولم يشر لتلك العلاقة إلا في النادر, وأنه انشغل بأمور خاصة بها مثل إعداد إقامة لابنته, واحضار مرضعة لها, ولم يهتم بالأم هيلين قدر اهتمامه بالابنة, فقد شغف بابنته شغفا عظيما وحزن علي وفاتها وهي في سن الخامسة أشد الحزن! ومن علاقته النسائية الأخري اتصاله بالأميرة اليزابث أبنة فردريك الخامس ملك بوهيميا..Bohemia المخلوع- كانت الأميرة قد قرأت كتابه.. مقال عن المنهج- وبدأت بمراسلة الفيلسوف نحو عام1640 فرحب بها إلي أن تمكنت الصداقة بينهما, فكانت تستشيره في أمورها الخاصة وتبوح له بما في دخيلة نفسها. وكان ديكارت يعجب بما أوتيت الأميرة من الفطنة ورجاحة العقل فأهدي إليها كتابه مبادئ الفلسفة عام1644 ولعله لم يكن مسرفا حين أعلن في الإهداء, أن أحدا لم يفهمه خير منها, وأن قليلا من العلماء يستطيعون أن يفخروا بأنهم قد رزقوا بما رزقت من الفهم في المسائل الرياضية, ومسائل الميتافيزيقا معا. وعلي الرغم من أن إهداء كتاب المبادئ إلي الأميرة إليزابث يقع في خمس صفات وهو يقطر إجلالا وتقديرا من شيخ الفلسفة الحديثة, فإنه ليس في استطاعتنا أن ننقلة كله, لكن لا بأس من أن ننقل إلي القارئ الفقرة الأولي منه:- إلي حضرة صاحبة الشوكة الأميرة إليزابث كبري بنات فردريك ملك بوهيميا.. أن أعظم نفع ظفرت به من المؤلفات التي نشرتها من قبل هو أنني نلت بسببها شرف الالتفات من سموك وحظيت حينها بالتحدث إلي جنابك... وهو ينفي أن يكون الإهداء تملقا وهو ليس كذلك بالفعل لأن والدها خلع من منصبه فهي لست أميرة إلا بالاسم فقط! يقول: لا يليق بي أن أتملق ولا أن أكتب عن أشياء ليس لي بها معرفة يقينية, وقد تضطرني الحكمة الكاملة إلي اكبارك اكبارا يجعلني لا أقتصر علي الاعتقاد بأنك صاحبة الفضل في هذا الكتاب..!. ويقال أن أسئلة الأميرة وملاحظاتها هي التي دفعت ديكارت إلي المبادرة بتحرير رسالة في انفعالات النفس وهي آخر مؤلفات الفيلسوف وقد نشرت عام.1646 وفضلا عن ذلك فقد كان ديكارت مرتاحا أن يكون من بين تلاميذه نساء أذكياء, وكان يراهن أبعد نظرا وأسلم فطرة من الرجال وأقل منهم تشبثا بالمزاعم والأباطيل, وربما كان هذا سببا من الأسباب التي دعته أن يقبل السفر إلي السويد بدعوة من الملكة كريستين لكي يلقنها فلسفته بنفسه! وعلي الرغم من أن جو استكهولم البارد لم يكن يلائم صحته, فقد قبل مع ذلك دعوة الملكة التي حددت الساعة الخامسة صباحا للتحدث معه في الفلسفة, وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جدا علي الفيلسوف الذي اعتاد أن يلبث في مضجعه لا يبرحه إلي ما قبل الظهر بقليل!!. تلك باختصار كلمة سريعة عن علاقات ديكارت النسائية وليس فيها ما يوحي بعزوف أبو الفلسفة الحديثة عن النساء, بل علي العكس أحبهن وبارز الرجال من أجلهن, وعاشر الخادمة- وربما غيرها- معاشرة الأزواج, وصاحب ولم يكن هناك شيء مع النساء وإلا قام به!. أما آرثر شوبنهاور(1788-1860) فهو صاحب قصة مأساوية تبرر ليس فقط عدم زواجه بل كراهيته النساء إلي الأبد!. لقد كان يقول باستمرار إنه ورث عن أبيه خلقه وإرادته, وعن أمه ذكاءها.. وكانت أمه روائية بلغت أوجه الشهرة في عالم القصص والروايات, وغدت إحدي مشاهير كتاب القصة في ذلك الوقت. ولكنها لم تكن سعيدة مع زوجها الذي كان تاجرا ضئيل الثقافة محدود الذكاء. وقد منعه ذلك عن الامتزاج بها. ومن ثم فعندما توفي هذا الزوج( وأغلب الظن أنه انتحر عام1805)- انطلقت هي تبحث عن الحب المتحرر بعد أن سقطت عنها قيود الحياة الزوجية وارتحلت إلي مدينة فيمار..Wiemar التي تنسجم مع هذه الحياة المنطلقة التي كانت تتوق إليها. ولقد ثارت ثائرة الابن آرثر علي هذا الاتجاه الجديد من أمه وأشتد النزاع بينهما, وترك في نفسه أثرا لا يمحي, انتهي إلي مقته الشديد للنساء الذي رافقه طيلة حياته, ولك أن تتخيل مدي سوء العلاقة بين الأم وابنها من الخطاب التالي الذي أرسلته هذه الأم الغريبة إلي ابنها:- إنك عبء ثقيل لا يطاق, فالحياة معك لا تحتمل, لقد محي غرورك كل صفاتك الحميدة حتي أصبحت ولا رجاء فيك يرجوه العالم, وذلك لعجزك عن ضبط نفسك ورغبتك القوية في اصطياد هفوات الناس..! فلما تعذرت الحياة بينهما علي هذا النحو اتفقا علي أن يعيشا منفصلين! وهناك عامل مهم لابد من الالتفات إليه وهو أن الأم كانت عشيقة لشاعر ألمانيا العظيم جوته..Goethe(1749-1832) وكان قد أقنعها بأمرين مهمين الأول أنه سيكون لابنها شأن عظيم في المستقبل; والأمر الثاني أن الأيام لم تسمح طوال التاريخ بظهور نابغتين من أسرة واحدة. فأدركت الأم من فورها أن نبوغ ابنها سوف يحجب نبوغها هي, ومن هنا فقد كرهته لأنه غريمها العائق أمام صعودها سلم المجد, ولم تخفف قط من شجارها معه بل إنها في إحدي مرات الشجار العنيفة دفعته علي درج السلم فانحدر هاويا بضع درجات وعندما وقف نظر إليها في حدة وغضب وهو يقول:- ومع ذلك فإن الأجيال القادمة لن تعرفك إلا علي أنك أم شوبنهور!. فلا يجوز إذن أن نقول أن شوبنهور لم يتزوج بل الأصح أن نردد ومع ول ديورانت هذه العبارة الجامعة: عاش شوبنهور وحيدا فلا أم ولا زوجة ولا ولد, ولا أسرة ولا وطن, ولا صديق ولا رفيق! بل لم يكن يشاطر معاصريه فيما ملأ صدورهم من نار الوطنية المشتعلة وقتئذ!. فمن لم يعرف حب الأم وحنانها, ومن لقي من أمه الكراهية والإساءة فلا غرابة أن ينتهي تفلسفه إلي التشاؤم وكراهية المرأة والرجال معا بل العالم بأسره. يعد الفيلسوف الألماني هيجل..Hegel(1770-1831) نهاية للفلسفة الحديثة وبداية للفلسفة المعاصرة. صحيح أن كانط..Kant لم يتزوج لأن القطار قد فاته كما كان يقول هو نفسه( فهو لم يرفض الزواج لكنه حاول مرتين وفشل)- أما فنشته فقد تزوج وأنجب ولدا انضم إلي الهيجليين الشبان في فترة من فترات حياته. أما شلنج فيعرف مؤرخو الفلسفة قصة غرامه بكارولينا شليجل زوجة الشاعر الكبير الذي كانت تكبره باثنتي عشرة سنة, وقد ظل يحبها وهي زوجة شليجل حتي طلقها الأخير في17 مايو1803, فتروجها الفيلسوف في26 يونيو1803 وقام والده وكان أسقفا باتمام مراسيم الزواج. أما هيجل فهو ينجب أولا ابنا غير شرعي هو لودفيج من خادمة في بينا(5 فبراير1807) ثم تزوج من ماريا فون توشر في6 سبتمر1811 وينجب منها ولدين أما نويل الذي أصبح راعيا رسوليا, وكارل الذي أصبح أستاذا للتاريخ وهو الذي نشر كتاب والده محاضرات في فلسفة التاريخ.. وفضلا عن ذلك فقد تزوج تلامذة هيجل لودفيج فوبرباخ(1804-1872) الذي ظل لأكثر من عشرين عاما يعيش مما تنفقه عليه زوجته من إيراد مصنع الخزف والصيني. أما كارل ماركس(1818-1883) الفيلسوف المادي صاحب العواطف الرقيقة فقد خطب في سن مبكرة فتاة شابة من أسرة بروسية أرستقراطية, وتزوجها في13 يوليو عام1843, وعاشت معه حياة ذاقت فيها الذل والهوان والبؤس فلم يكن له عمل ولا وظيفة ولا حتي وطن يستقر فيه, وكان يمده أحيانا بالمال صديقه إنجلز(1820-1895) وهو ابن صاحب مصنع نسيج ثري من بروسيا. وكثيرا ما كان ماركس يخرج باحثا عمن يقرضه ثمن الدواء لابنته.