حرصت الصحابيات رضي الله عنهن علي التعلم من رسول الله صلي الله عليه وسلم, وأقبلن علي مجالسه, وأقدمن علي السؤال والاستفسار في كل شأن من شئون حياتهن, ولم يصرفهن عن معرفة حقوقهن وواجباتهن ومتطلبات دينهن صارف, وكان من مقتضيات هذا الاهتمام بالعلم النبوي طلب الصحابيات لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم, وكان ذلك منهن بدافع من الطاعة والامتثال لأحكام الدين الحنيف. وقد شملت الكيفيات التي تحملت بها الصحابيات الحديث النبوي طرق التحمل المختلفة, ولم تخرج عن طرق تحمل الصحابة رضوان الله عليهم, وفي ذلك ما فيه من الدلالة علي أنه لم يكن هناك فرق بين الرجال والنساء في طلب العلم في العهد النبوي الشريف. ومن أشهر الطرق في تحمل الحديث النبوي التي شاعت بين الصحابيات ونقلها عنهن التابعيات ومن بعدهن: السماع, حيث حضرت الصحابيات المجالس الخاصة والعامة للمسلمين, بل إن النبي صلي الله عليه وسلم خص يوما للنساء يعظهن ويعلمهن أحكام الدين, وكن يحضرن العبادات الجماعية في المساجد فيسمعن منه صلي الله عليه وسلم, ومن ذلك قدوم النساء إلي البيت النبوي للسؤال, والأمثلة علي ذلك كثيرة, مثل ذهاب زينب امرأة عبدالله بن مسعود إليه صلي الله عليه وسلم تسأله عن النفقة والصدقة علي الزوج والأقربين( أخرجه البخاري465/5), وما كان في سبيعة الأسلمية من الشهامة والفطنة, حيث ترددت فيما أفتاها به أبو السنابل من قوله: لم تحلي, وكان زوجها قد توفي فوضعت حملها بعده بليال, فانطلقت بنفسها إلي النبي صلي الله عليه وسلم واستوضحت منه الحكم في قضيتها وأباح لها أن تتزوج لأن عدتها انقضت بوضع حملها( رواه مالك في الموطأ589/2). وكانت المرأة تغتنم فرصة لقاء النبي صلي الله عليه وسلم في الطريق لتسأله, وقد تعترضه في أثناء أداء مناسكه وحجه, حتي وهو علي راحلته تستفتيه فيفتيها, كما حصل للمرأة الخثعمية التي سألته عن الحج عن والدها العجوز( رواه البخاري551/2). ومن طرق نقل الحديث النبوي: المكاتبة, التي جاءت نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول أجناس كثيرة في الإسلام مع حاجتهم إلي فتاوي وأحكام في الأمور المستجدة, مما لم يهتدوا إليه بأنفسهم, فإن الناس يعمدون إلي مكاتبة رءوس العلم ليزودوهم بما لديهم من العلم في قضاياهم, ولما كان أساس ما يفتون به كتاب الله أو ما أثر عن النبي صلي الله عليه وسلم, فلا شك في أن تكون هذه الرسائل المبعوثة متضمنة أفعال النبي صلي الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته. ومثال ذلك ما جاء عن عائشة بنت طلحة, حيث قالت: قلت لعائشة, وأنا في حجرها, وكان الناس يأتوننا من كل مصر, فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها, وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار, فأقول لعائشة: هذا كتاب فلان وهديته, فتقول لي عائشة: أي بنية, فأجيبيه وأثيبيه, فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك, قالت: فتعطيني( الأدب المفرد للبخاري ص382). ولقد كان الناس يكاتبون أم المؤمنين عائشة من كل الأقطار يسألونها عن مختلف القضايا, فكانت تجيبهم عن ذلك مكاتبة أيضا بخط يدها, أو تأمر من يكتب لها, وقد كان معاوية يستفتيها ولا يطمئن إلا لردها. ومن هذه الطرق: الإجازة, وقد اعتمدت بعد أن دونت الأحاديث في الكتب بالأسانيد الموثوقة, فاتخذت طريقة الإجازة تسهيلا وتيسيرا علي الشيخ وتلاميذه, وتشير المصادر إلي وجود نساء راويات عرفن بطلب العلم وتحملن بطريق الإجازة, بل وأجزن الرجال, نذكر منهن مثلا: نفيسة وتسمي فاطمة بنت محمد بن علي البزازة البغدادية أخت أبي الفرج بن البزازة, المتوفاة سنة563 ه, روي عنها: الحافظ عبدالغني, والشيخ الموفق, وأجازت لابن مسلمة( سير أعلام النبلاء489/2). ومن الطرق المعروفة أيضا: الوجادة, وهذا اللون يلجأ إليه الراوي إذا لم يتسن له سماع ما وجد من الشيخ مع كونه لقيه وسمع منه, أو إذا لم يلتق بمن يروي عنه وجادة ولم يسمع منه, وقد رصدت بعض النماذج من الروايات تروي الواحدة بالوجادة عن أحد أقاربها لوجود كتابه عندها, فهذه سمانة بنت حمدان, وهي بنت الوضاح بن حسان, تروي عن جدها بقولها: وجدت في كتاب جدي الوضاح بن حسان( تاريخ بغداد440/14). وما ذكرناه هنا من نماذج هو غيض من فيض من إسهامات المرأة المسلمة في نقل الحديث النبوي وروايته, وهو ما يعد سابقة إسلامية حضارية في الاعتراف بدور المرأة في كل نواحي الحياة, بل ويعد أمرا محفزا للمرأة في عصرنا الحاضر لكي تنهض وتعمل علي الارتقاء بالأمة الإسلامية, كل في مجال تخصصها ومن داخل موقعها, لكي تسهم عن وعي وثقة في بناء حاضر هذه الأمة ومستقبلها. المزيد من مقالات د. علي جمعة