حُكْمُ الْشَّرْع فِي مُشَاركَة النِّساء عَلَى صَفَحات التَّوَاصُل الاجْتِماعِي المَعْروفَة بالفيس بوك

سَبق وَقَرأت عَلَى صَفْحَة الأئمَة دعْوَة مِنْ أَحد الْشُّيوخ إِلَى إِخْراجِ الأَخْوَات مِنْ صَفْحَةِ الْفِيس بُوك ، وَتَرِك الاتِّكالِ عَلَى حًسْنِ الْنِّيَّة ، ثُمَّ قَدْ أَعَادَ عَلَىّ أَحَدُ الإِخْوَةِ هُنا مَا قَرَأْتُهُ ، فَأَجَبْتَ بِالله مُسْتَعِينًا قَائلاً :
هَذِهِ الْدَّعْوَةُ لاَ شَكَّ دَعْوَةٌ تَحْمِلُ حِرْصًا وَرَغْبَةً فِي سَدِّ ذَرَائعِ الْشَّرِّ مِنْ وِجْهَةِ الْنَّظَرِ الْشَّخْصِيَّة ، لَكِنْ الْمَطْلُوبَ فِي هَذِه الأُمُور طَرْحُ وجْهَةِ الْنَّظَرِ الْشَّرْعِيَّة ، وَلَيْسَ وجِهَاتِ الْنَّظَرِ الْشَّخْصِيَّة ، وَهَذَا الْمَوْضُوع وَهُوَ دُخُول الْشَّابَّات أَوْ الْنِّسَاء عُمُومًا إِلَى صَفَحَات الْفِيس بُوك وَتَبَادُل الْكِتَابات مَعَ الْشَّبَاب يَدْخُلُ فِيمَا لَهُ سَنَدٌ مِنْ نَاحِيَة الْوِجْهَةِ الْشَّرْعَيَة ، يَعْطِي جَوَازًا لِلشَّاباتِ فِي تَبَادُلِ الآرَاءِ وَالْمُكَاتَبَات مَعَ الْشَّبَابِ وَالْشَّبَّاتِ عَلَى وَجْهٍ سَوَاء ، وَهَذَا الْجَوَاز مُسْتَمَدٌّ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنِ الإِسْنَاد أَخْرَجَهُ الإِمَام الْبُخَارِيّ فِي كتابِه الْأَدَب الْمُفْرَد (ص324) ، وَفِي بَابٍ تَرْجَمَ لَهُ بِعُنْوَان يَدُلُّ عَلَى مَوْضُوعِ الْفَتْوَى ، فَقَالَ : بَابُ : الْكِتَابَة إِلَى النِّسَاء وَجَوَابهنَّ . ثُمَّ رَوَى فِيهِ عَنْ عَائِشَة بِنْت طَلْحَة بنِ عُبَيْدِ اللهِ قَالَتْ : قُلْت لِعَائِشَة تَعْنِي أُمَّ الْمُؤْمِنِين وَأَنَا فِي حِجْرهَا ، وَكَانَ النَّاس يَأْتُونَهَا مِنْ كُلّ مِصْر ، فَكَانَ الشُّيُوخ يَنْتَابُونِي لِمَكَانِي مِنْهَا ، وَكَانَ الشَّبَاب يَتَآخَوْنِي فَيُهْدُونَ إِلَيَّ وَيَكْتُبُونَ إِلَيَّ مِنْ الْأَمْصَار ، فَأَقُول لِعَائِشَة : يَا خَالَة ! هَذَا كِتَاب فُلَان وَهَدِيَّته ، فَتَقُول لِي عَائِشَة : أَيْ بُنَيَّة ! فَأَجِيبِيهِ وَأَثِيبِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدك ثَوَاب أَعْطَيْتُك . فَقَالَتْ : تُعْطِينِي .
وَعَائشَة بِنْت طَلْحَة هَذِه هِيَ بْنْت أُمُّ كُلْثُوم أُخْت أُم الْمُؤمِنِينَ عَائشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا ، وَهِيَ مِنْ الْرُّواة النِّسَاء الْثِّقَات ، وَهَذَا المِثَال الّذِي كَان مِنْهَا فِي كَتَابَات الْشَّبَاب إِلَيْهَا وَرَدَ فِي المُكَاتَبَة الْعَادِيَّة الَّتِي تَتَضَمَّن الْمُكَاتَبَات الْعِلْمِيَّة الْفِقْهِيَّة وَالْحَدِيثِيَّة ، وَغِيْرِهَا مِنْ سَائرِ الْمَعَارِفِ .
وَمِنْ هُنَا كَانَ هَذَا الْحَدِيث أَصْلٌ فِي بابِ مُؤاخَاةِ الْشَّبَابِ لِلشَّابَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالْكِتَابَة إِلَى النِّسَاء الْشَّابَّاتِ وَجَوَابِهنَّ ، وَمِنْ هَذَا الْبَاب صَفَحَات الْتَّوَاصُل الاجْتِمَاعِي الفيس بوك
وَتَبْعًا لِهَذَا الأصْلِ أَرَى أَنَّهُ لاَ مَانَعِ مِنْ هذَا الْتَّواصُل ، مَعَ ضَرُورَة الْتَّاْكِيدِ عَلَى الالْتِزَام بالآداب الشَّرعية ، وجَعْل الأَمْرِ قَاصِرًا عَلَى الاسْتِفَادَة وَالإِفادَةِ فِي الْمَسَائل الْعِلْمِية ، وَعَدَم تَجَاوُز ذِلك إلَى الانْجِرار وَراءَ أَحَادِيثِ الشَّكَوَى وَبَثِّ الْنَّجْوَى مِنْ أَسَى الْحَياةِ الْزَّوْجِيَّة ، وَهَجْرِ الْزَّوْجِ وَوَصالهِ ، فَهَذِه التي تَجُرُّ بحبالِها إلى الأضْرارِ ، وَتُغْرِي الأَشْرَار ، وَتُوقِعُ فِي مَحْذُور مُخَالَفَةِ الْشَّرْعِ الْسَّهْلِ الْسَّمْح .
أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ ذَلكَ بِالْكُلِيَّةِ فَلَيْس عَلَيْه دَليل ، وَلَيْسَ لَهُ تأَصِيلٌ ، وسَدّ الْذَّرائعِ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ فيمَا لَنا في بابه سَلَفٌ ، أَوْ مَاكانَ مِمَّا لَيْسَ لنَا فِيهِ سَلَفٌ ، وَنَخْشَى مِنْهُ الْوُقُوع فِي الْتَّلف .
وَمِنْ الْتَّلْفيق أَنْ يُسْتَدَلَّ لِلمَنْعِ بِحَدِيثِ الْخُلْوَةِ بِالأَجْنَبِيّ ، لأَنَّ الْصَّفْحَة مَفْتُوحَةٌ لَعَدَدٍ مِنْ الأَصْدِقَاء كُلُّهم يُمْكِنُهُ قِرَاءَة مَا دُوِّنَ عَلَيْهَا مِنْ مَعْلُوماتٍ وَسَلامَات . وَإِنْ فُرْضَ فِي بَعْضٍ أَنَّهُ يَفْتَحُ لِذَلِكَ صَفْحَةً خَاصَّة ، فَهَذَا شَاذٌ وَالْشَّاذُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْه .
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ الْتَّقْلِيد فِي الْتَّضِييق مُتابَعَةً لِبَعْضِ الْدَّعَاوَى أَوْ الْدَّعَوَات الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيهَا الْوَرَعُ الأَخْرق ، فَإِنَّ هَذَا الوَرع إِذَا آيَسَ أَصْحَابَه فَرُّوا مِنْهُ إِلَى طَرَفِ الْنَّقْيضِ الآخَر ، فَلاَ تَدْفعوا بالنَّاس إِلَى هَذَا الْطِّريق بِالْتَقْلِيدِ فِي الْتَّضْييق .
كُلُّ هَذَا إِذَا مَا كَانَتْ الْشَّابَة أَوْ الْمَرْأة غَيْرُ ذَاتِ زَوْجٍ ، أمَّا إِذَا كَانَتْ مُزَوَّجَة فَلاَبُدَّ أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُرْتِبِطًا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، فَإِذَا نَهَاهَا زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّة ، أَوْ إِذَنَ لَهَا بِالْحَدِيثِ مَعَ بعضٍ دُون بَعْضَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا كَحُكْمِهِ فِي إِذْنِ الْبَيْت ، وَفِي إِذْنِهِ لَهَا بِالْكَلامِ مَعَ بَعْضٍ دُونَ بَعْض ، وَعَلَيْهَا فِي هذِه الْحَال الْطَّاعَة ، للحِفَاظِ عَلَى الْحَياةِ الْزَّوْجِيَّة ، وَسَدًّا لِلخْلاف وَزَعْزَعَةِ أَمْنِ الْأُسَرة ، خُصُوصًا عِنْدَمَا يَدِّبُّ الْشَّكُّ إِلَى قَلْبِ الْزَّوْج .
وَكَذَلِكَ الأَمْرُ بِالْنِّسْبَة لِلزَّوجِ فِي الْكَلامِ وَالكِتَابَةِ إِلَى الْنِّسَاء إِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيُورٌ أَوْ تَغَارُ مِنْ بَعْضٍ ، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرأة ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الْذَّي عَلَيْهِنَ بِالْمَعْرُوف } البقرة : 228 .
وَسلاَمَة الْبَيْت وَلَمُّ شَمْلِ الأُسْرَة أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُهْدَمَ لمِثْلِ هَذه الكَمَالِيَّات بَل الْمُرَفِّهات وَالْتَّرْفِيهِيَّات .
وَفِي الْنِّهَايَةِ أَقُول : هَذَا مَا أَنْصَحُ بِهِ فِي هَذَا الْبَاب ، وَهُوَ مَا نَصَحَتُ بِهِ نَفْسِي وَأَهْلِي ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُم إِلَى مَا أَنَهَاكُم عَنْهُ . وَاللهُ وَلِيُّ الْتَّوفِيق ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيل .
كَتَبَهُ / محمود عبد العزيز سليمان . من علماء الأزهر الشريف .