مثلما كان الاستحسان طاغيا بطوفان الغضب ضد الطاغوت في الخامس والعشرين من يناير, كاد الحزن يعتصر قلوب الاتراك وهم يرون الفوضي العارمة وعمليات القتل العشوائية الغامضة وقذائف الحجارة تقطع شرايين القاهرة. بما دفع الخارجية الكائنة بحي بلجت الشهير بقلب العاصمة أنقرة, أن تصدر بيان عبر عن القلق والخوف علي الاصدقاء من الخروج بعيدا عن مسار الديمقراطية التي أرادها شباب التحرير وكل ميادين مصر, ولصاحب تلك السطور حمل الحدث مفاجأة لم يكن ليتوقعها, ففي عمق الاناضول وفوق أحد التلال حيث تسكن قرية كوزلك, جاء من يسأل ما الذي يحدث في محمد محمود ؟ إلي هذا الحد ظهر الحاصل بمحيط الداخلية المصرية في الخريف المنصرم, لقطاعات عريضة من الشعب التركي مروعا ومخيفا, فشاشات التلفاز شأنها شان الميديا المرئية في أركان المعمورة كانت تنقل صراخ الشوارع وقد غطتها سحب الغازات الكثيفة وعبثا حاولت أن تجد تفسير لهذا التردي المتسارع والذي بدا وكأنه مخطط, وكان طبيعيا أن تتساءل الصحف هل هو أنقلاب ؟ وأين هي الثورة ؟ وهل وئدت وهي التي لم يمض عليها سوي عشرة شهور فقط ؟ وفي تنظير بالغ الدلالة خرجت أدبيات سيارة وقد أكتست صفحاتها بتحليلات شتي كانت خلاصتها أن ثورة الشعوب ليست فقط من أجل اسقاط ديكتاتور أو نظام استبدادي ولكنها حركة تفتح الطريق الي التحول والتغيير الجذري في المجالين السياسي والاجتماعي. وفي التطبيق علي حالة الكنانة تباينت الرؤي, ففريق ذهب إلي أن الشعب المصري سرعان ما أكتشف بأنه أزاح مبارك ولكن لم يسقط نظامه بعد وبالتالي ما كان ينشده ويتمناه لم يحدث, وان الادارة العسكرية المؤقتة لم تتمكن من تلبية طموحاته, وبالتالي جاءت مطالبهم بضرورة أن يرحل المشير طنطاوي ومجلسه. وفريق آخر رأي أن المشهد يبدو ملتبسا وأنه قد يدفع البلاد للمجهول ولمزيد من الإنقسامات والاشتباكات المسلحة خاصة مع وجود دوافع إنتقامية لأصحاب نفوذ زال عنهم الصولجان فضلا عن المصالح التي أنتزعت منهم إنتزاعا وبطبيعة الحال سيحاولون دق الاسافين بين الجيش والمواطنين بدفعهم إلي المواجهة وهو ما حدث بالفعل. ولأن الاستحقاق الانتخابي سيأتي بعد أيام قلائل فقد توقع الكثيرين هنا في تركيا ألا تجري الانتخابات البرلمانية في موعدها, ومع إفتراض وجرت فلن تمر وقائعها بسلام, وهو ما ثبت عسكه تماما, وعلي الفور جاءت الاشادات من كافة القوي السياسية الفاعلة بالاقبال غير المسبوق علي صناديق الاقتراع وبنزاهة العملية التصويتية. وهكذا بات هناك تيار صار يتسع يوما بعد آخر ذاهبا إلي أن الثورة المصرية مستمرة, وأن ميدان التحرير لم يعد رمزا لانتفاضة الشعب المصري من اجل الحرية والديمقراطية بل إرهاصا للربيع العربي. وقالت ميلليت وهي واحدة من الصحف الكبري أن الهدف الاساسي من حركة التحرير الثانية إكمال ما تم إنجازه في الخامس والعشرين من يناير وذلك بإزالة كاملة لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك وإنسحاب الجيش كي يعودإلي ثكناته وفتح الطريق لاعداد دستور جديد. ولان الأجواء هي في الاصل عدالة وتنمية, فكان طبيعيا أن تحتفي أروقة الحزب الحاكم بالنجاحات التي حققها الاخوان المسلمين دون السلفيين, وها هي صحيفة وطن لم تنس أن تشير إلي إستفادة تلك الجماعة وحزبها من خبرات العدالة في ثوبه الأردوغاني, ولم تخف المساعدات المباشرة التي قدمها كوادر الأخير لها, ومضت قائلة إن نجاح النسخة المصرية يعود إلي الإحتذاء بالنموذج نظيره التركي وإستجاباتها لتوجهاته غير الصدامية خصوصا مع الغرب كل هذا بهدف تأمين الإستقرار لمصر, فضلا علي ضرورة التركيز علي مواجهة المشاكل الحياتية اليومية للمواطنين المصريين والبحث عن الحلول الواقعية لها بدلا من ضياع الوقت في القضايا الجدلية الخلافية. لا يعني هذا أن الطريق صار ممهدا فمازال هناك الكثير الذي يجب أن يبذل إلي أن تستقر الديمقراطية, غير أن الهاجس الأكبر الذي يمكن أن يعصف بها هو وجود تربة صالحة تتغذي علي العنف وهذا هو التحدي الذي يواجه الثورة بعد مرور عامها الأول.