عاشت فكرة المخلص في وجدان البشر لقرون طويلة بسبب الإحساس بالظلم وسيادة منطق البقاء للأقوي ونظام العبودية والوقوف أمام غضب الطبيعة في عجز عن الفهم. ومازالت شعوب تنتظره, فالشيعة ينتظرون المهدي الذي سوف يأتي ليملأ الأرض سلاما وعدلا, ولقد كان الشعب اليهودي أول شعب ينتظر المخلص( المسيا) أو المسيح المنتظر الذي سوف يخلصهم من العبودية للشعوب الأخري بقوته الخارقة للطبيعة مثل أبطالهم في العهد القديم شمشون أو موسي أو يشوع وغيرهم. وعندما جاء المسيح( عيسي) قدم فكرة الخلاص الذي لا يقوم علي العنف أو القوة الخارقة التي تهزم الأعداء و تبيدهم كأنبياء العهد القديم لكنه قدم الخلاص للنفس الإنسانية من خلال اتضاعه و محبته و رقة مشاعره, وكان يخلص أجساد البشر بمعجزات شفاء من أمراضهم و يخلص أنفسهم من سيطرة إبليس عليهم, وأعلن أنه المسيا المنتظر و انضم إليه تلاميذه بخلفية المسيا العسكري صاحب القوة الخارقة المخفاه داخل جسده النحيل الضعيف, وكانوا يتوقعون أنه عندما يأتي الوقت المناسب ويحيط به الأعداء من كل جانب سوف ينتفض كما كان يفعل شمشون وأنبيائهم, ولذلك قيل أن يهوذا باع سيده ليضعه في موقف يظهر فيه قوته الخارقة, لكن عندما رأي أنه قد قبض عليه ولم يفعل شيئا, وتأكد أن المسيح قد دين وحكم عليه بالصلب ندم علي خيانته فشنق نفسه, وعندما حاول تلميذه بطرس الدفاع عنه بالسيف رفض وقال:' إن الذين يأخذون بالسيف, بالسيف يؤخذون', وهكذا قدم المسيح صورة مختلفة للمخلص المنتظر, المخلص المسالم الذي يدعو الناس لأن يتصالحوا مع أنفسهم ومع الله ولا يستخدمون العنف, لذلك انقسم اليهود إلي قسمين الأول آمن بالمسيح المخلص الذي مات لأجل رسالة الخلاص للبشر( المسيحيون), والنصف الآخر لم يعتبره حتي نبيا لكن اعتبروه مخادعا ورفضوه تماما ومازالوا ينتظرون مجيئه علي حصان ماسكا سيفا وله قوة خارقة ليخلصهم( اليهود), بل إن بعض المسيحيين الذين آمنوا بخلاص المسيح المسالم, ينتظرون عودته بقوة ليحطم أعدائه وأعداء اليهود ويضم إخوته اليهود إليه ويحكم العالم وهم من دعوا بالمسيحيين الصهاينة وهم مرفوضون من معظم الكنائس المسيحية. وفي التاريخ البشري هناك من سار علي الطريق كمخلص علي الطريقة اليهودية( المستبد العادل), وهؤلاء هم الطغاة في كل زمان و مكان بإدعاء خلاص شعوبهم من الذل والعبودية بقوة السلاح وسفك الدماء, لكن هناك من سار علي طريق المسيح الذي يقدم الخلاص من خلال الاتضاع والحب والصفح عن المسيء والقاتل, وهؤلاء أفراد قليلون في التاريخ بدءا من غاندي حتي نيلسون مانديلا مرورا بمارتن لوثر كينج. لقد كان مانديلا إفريقيا مسيحيا حتي النخاع و بدأ كفاحه بفكرة المخلص العسكري مثل قادة العهد القديم و كون جماعة مقاومة ضد المستوطنين العنصريين البيض المسيحيين التابعين للاهوت الإصلاح البروتستانتي و كان صديقه الأسقف ديزموند توتو يتبع المذهب الأسقفي أو كنيسة إنجلترا و كان نيلسون مانديلا بروتستانتي رافضا لهذين المذهبين و اختار مذهبا يدعي الMithodest وترجمتها' المنهجية' ومؤسسها اللاهوتي يدعي جون وسلي وقد أبدع جون وسلي فكرة لاهوتية دعاها' القداسة الكاملة' وأسسها علي فكرة المخلص المتألم أو أسماها العبد المتألم, الذي يتألم لأجل خلاص الآخرين, وعندما قبض علي نيلسون وحكم عليه بالسجن مدي الحياة بدأ يستعيد فكر جون وسلي عن الألم لأجل خلاص الآخرين حتي الذين يضطهدونه أو يكرهونه ومارس تدريبات روحية في هذا الاتجاه حتي أن فكره تحول من العنف إلي السلام الداخلي, وهكذا قام أولا بالتصالح مع نفسه وعندما تصالح مع نفسه استطاع أن يتصالح مع الله وقرر و هو في السجن أن يستمر متألما حاسبا هذه الآلام لأجل خلاص الآخرين وليس خلاصه هو, ولذلك عندما عرضت عليه السلطات العنصرية عام1991 أن يخرج من السجن بعد25 سنة من الألم بشرط أن يتخلي عن رسالته قال لن أقبل خلاص نفسي وحريتها علي حساب عبودية الآخرين وآلامهم ورفض الخروج من السجن وبعد عامين طلبوا منه الخروج من السجن بدون شروط وهكذا خرج من السجن وكأنه خرج من الموت للحياة ليس لأجل حياته وحريته الشخصية لكن لأجل حياة وحرية شعبه, لقد عاش فكرة المخلص ليس لشعبه فقط لكن لأعدائه أيضا حيث قام بعقد المصالحة بين القاتل والمقتول الظالم والمظلوم ورفض جميع المساومات وضغوط شعبه وأقربائه السود للانتقام من البيض ورفض طلبات البيض القيام بنظام فيدرالي يتناوب علي رئاسته ممثلون لكل الطوائف, ضمانا( حسب رؤيتهم) لاحترام حقوق الأقليات( البيض) ورأي أن المواطنين متساوون والمواطنة لا تتجزأ ولا تقوم علي الإقصاء والتقسيم ورفض تكريس الماضي أو أي تمييز لأي فئة, لأن المخلص الذي يصالح الجميع معا يساوي بينهم, ولكي يفعل ذلك قام هو أولا واعترف بخطئه وخطأ جماعته في لجوئهم للعنف والإرهاب في وقت كفاحهم ضد الدولة العنصرية, وفرض علي الجانب الآخر أن يعترفوا بممارستهم العنصرية غير الأخلاقية ويطلبوا المغفرة من الله ومن الذين ظلموهم, لقد صالح الأصدقاء والأعداء علي أنفسهم وعلي الله فتصالحوا مع الآخر المختلف, ورفضوا فكر الانتقام والصراع وألقوا بالماضي من خلفهم ونظروا للأمام ليحققوا للأجيال القادمة في جنوب أفريقيا السلام والحب والرخاء والتقدم. فهل نفعلها في مصر؟ وهل يخرج من بيننا مخلص يتصالح مع نفسه والله ويقبل الآخر ويدعو الجميع للمصالحة لأجل مستقبل الأجيال القادمة في مصر وهو يعلم أنه يفعل ذلك لا من منطلق الضعف بل من منطلق القوة؟, قوة الحب والسلام والمصالحة. لمزيد من مقالات القس .د. إكرام لمعى