هل ثمة فرق كبير. بين خطبة الجمعة وبرامج التوك شو, التي يمسك فيها الباشا المذيع بالكاميرا وآذاننا, ويظل ينتع ويتحدث إلي أن تمتلئ رأسك بالضجيج والصداع والصخب؟ طبعا, هناك قاسم مشترك, هو التلقين. إن خطيب الجمعة يظل يتكلم ويتكلم, وغير مسموح لأحد بأن يقاطعه, أو يرد له كلاما, مهما كان ما قال وما قيل. إلا أن ما يخفف علينا وطأة هذا التلقين, في خطبة الجمعة, أننا في الخطبة نسمع كلام الله تعالي, قرآنا عربيا, يفرج الكروب, ويزيل عن النفس الهموم, كما.. ويشنف آذاننا حديث للنبي الحبيب, أو حديثان, نستعين بهما ومعهما علي مصاعب الحياة, ونستعيد زمن النبوة الجميل. لكنك في التوك شو, تري البيه المذيع وقد أخذته الجلالة, وركبته العظمة, وهات ياكلام, لاحوار, ولا مناقشة, ولا هات وخذ, فقط هو الذي يتكلم وبس, يقول أي كلام, وهو وحده صاحب صولجان الحديث, ومسئول منصة مقهي الرغي. لا أحد يراجعه, أو يحاسبه, أو يستوقفه( باستثناء الفاصل الإعلاني الذي يرحمنا من المكلمة, ويمنحنا الفرصة الذهبية لتغيير القناة!). طيب وما المشكلة, دعه يا أخي يتكلم, وهل الكلام عليه جمرك؟ بالتأكيد هناك مشكلة, بل سبع مشاكل علي الأقل, خذ عندك.. قل هات: أولها, انك ياسيدي المذيع المطاع, يا صاحب الأمر والنهي, تعودني علي الكسل العقلي, إن سيادتك تدحرج لي الفكرة التي تريد ان تبيعها لي فأتلقاها أنا كالتنبل, دونما تعب مني ولا عناء, وطبيعي أن ما يأتي بسهولة يضيع أيضا بسهولة, أو كما يقول الإنجليز( إيزي كام.. إيزي جو), إن الخطر هنا أننا ننشئ جيلا من كسالي العقول. والخطر الثاني, انك يامولانا المذيع تعلمني الاستسلام والانهزام, كيف يعني؟ لأنك لم تسمح لي, أنا المشاهد المستسلم, بالنقاش, أو المجادلة, أو الرفض, فأتربي منذ نعومة أظافري علي الاعتقاد بأن كل ما يقال لي هو صادق بالضرورة, مقدس بالتبعية, ومن هذا الباب يدخل وقد دخل علينا كل الأفاقين. وكيف نقاومهم وبيننا وبينهم شاشة تعلمنا الانبطاح؟ والخطورة الثالثة, أنك يا امبراطور الكلام تغرقني في المطلق! ياعيني ياسيدي.. يعني إيه سيادتك الكلام ده؟ سأقول لك. إن معظم المعلومات في هذه الحياة نسبية( باستثناء الله عز وجل), أي تقبل الصح والخطأ, وعندما تأتي سيادتك لتصوب ميكروفونك أو كاميرتك إلي عقلي ووجداني, ثم تصرخ وتتشنج بأن ما تقوله حضرتك هو صح الصح, ولا صح غيره, فإنني مرغما سأتصور كلامك بأنه مطلق, ومن ثم لا أؤمن برأي آخر, وتلك بداية التسلط الذي ينتهي بالعبودية لغير الله. فإذا رحنا إلي الخطر الرابع, فسنجده يتمثل في تفشي الغباء والبلاهة والبلادة العقلية لدي جمهور النظارة( يعني نحن المشاهدين) كيف؟ هنا قد أسأل جناب سيادتك سؤالا: من أين يأتي ذكاء العقل واستنارته؟ ستقول: من استعمال العقل بشكل متواصل, لأن العضو الذي لا يستعمل باستمرار يضمر( علي رأي دارون) وقاكم الله شر الضمور, وبالتالي, فإنك إن أنت أمسكت بالميكروفون أو الكاميرا, وتكلمت وحدك, فقد منعت عقلي من الاستخدام, فأصير بفضل سيادتك غبيا( بعيدا عن السامعين!) والخطر الخامس, هو اعتياد الخيانة والتدليس. يا خبر أغبر, خيانة مرة واحدة؟ آه... تصور! إن حضرتك, عندما سمحت لنفسك بأن تتحدث وحدك, وفرضت علي مذلة الاستماع لك دون مقاطعة, فقد جعلت مني عبدا ذليلا. ومن أهم طباع العبيد الخيانة, حيث انهم يكونون دائما فاقدي الثقة في أنفسهم, فيلجأون إلي التآمر لنيل حقوقهم, ألم يقل المتنبي: لا تشتري العبد إلا والعصا معه, إن العبيد لأنجاس مناكيد؟ فأما الخطر السادس, فهو إفشاء التفاهة وفقدان المعني وعدم الإتقان, خذ عند حضرتك السادة الذين عكشوا الكاميرا في غيبة من الزمن, ومن الدولة, وراحوا يتكلمون في الدين, وتسألهم: هل درست في الأزهر؟ هل حفظت القرآن الكريم, وأتقنت علومه؟ هل عكفت علي سنة النبي المصطفي ووعيتها خير الوعي؟ سوف يتبجح كعادته ويرد عليك: ليس شرطا, فاشخط في وجهه واصرخ: يا عم روح! ويبقي الخطر السابع, وهو الإملال, يعني الملل, أليست حياتنا بذمتك ودينك مملة جدا الآن؟ هل فكرت يوما كيف أن هذا التلقين هو أحد أسباب هذا الملل؟ ألم تضبط نفسك ذات مرة وأنت تشاهد هذه البرامج تقول لنفسك ياربي, كل يوم الكلام نفسه.. كل يوم الكلام نفسه؟ ومن أين يأتي الملل؟ من ضحالة العقل, وما مصدر الضحالة؟ احتكار شخص واحد لعقلك يوميا لساعتين, بل ان بعضهم يظل يرزع في دماغك حتي طلوع الفجر! ونعود لموضوع خطبة الجمعة. إن من أفضل القرارات التي اتخذتها وزارة الأوقاف أخيرا إعادة المساجد إلي خطبائها الدارسين المتعمقين في الدين, بعيدا عن الهواة المغامرين.. ويبقي أن يتخذ أحد ما القرار نفسه مع تلك البرامج الليلية التي علمتنا الانبطاح.. فمن هو هذا المغامر القادر علي اقتحام عش الدبابير ياتري؟ سنري! لمزيد من مقالات سمير الشحات