بدأ طه حسين عطاءه الفكري من معسكر الصفوة حين كان يكتب في صحيفة حزب الأمة( الجريدة) ثم صحيفة حزب الأحرار الدستوريين( السياسة) حتي بداية الثلاثينيات من القرن الماضي. حين كان يجد نفسه مع صفوة من المثقفين والمفكرين الذين ينتمون لتيار هذين الحزبين.. لكنه لم يلبث أن تحول عن هذا التيار وإن احتفظ بصداقة رجاله- عندما اصطدم بنظام اسماعيل صدقي(193330) وكان نظاما دكتاتوريا مستبدا. وقد بدأ الصدام عندما عرض صدقي علي طه تولي رئاسة تحرير صحيفة حزبه الحكومي( حزب الشعب) لكنه أبي.. وذكر إنه ليس من مصلحة الحكومة أن يعرف الناس أن عميد الآداب يسخر نفسه للكتابة في صحفها, فيتعرض بذلك لازدراء الزملاء والطلاب. ووقف النظام منه موقفا غير كريم, وتجاهل ترقيته, ورفض اقتراحه بإنشاء قسم للآثار بالكلية, فرفض طه منح الدكتوراة الفخرية للسياسيين الذي طلبت الحكومة منحها لهم, وقال إن الجامعة هي التي تمنح هذه الدرجات بوحي من نفسها ولا تستطيع منحها لأفراد حزبيين, فاضطرت الحكومة إلي نقل طه حسين إلي وظيفة مراقب بالتعليم الابتدائي لتبعده عن الجامعة( في مارس1932), فثارت الجامعة ومجالسها وتظاهر طلابها لاعتداء الحكومة علي استقلال الجامعة مظاهرات ومقالات وتعطيل الدراسة..الخ, وحمل الطلاب طه علي أعناقهم, وطالب مجلس الكلية بإعادة الأستاذ إلي كليته تحديا لموقف وزارة المعارف, وتحول طه حسين إلي رمز عظيم لمعان كبيرة, فقد أصبح رمزا لاستقلال الجامعة, واستقال لطفي السيد من رئاسة الجامعة احتجاجا علي موقف الوزارة( في يوم9 مارس1932) وانتقلت المشكلة إلي مجلس النواب والأزهر فأحالت الوزارة طه حسين إلي التقاعد وفصلته من عمله واستردت منه منزله الحكومي وأوقفت مرتبه, وأراد خصومه إحراق كتبه وأغرقوه بالشتائم.. صار طه حسين بعد ذلك كاتبا سياسيا يهاجم الوزارة ونظامها صباح مساء, خاصة وقد تحرر من قيود الوظيفة, فجعل يهاجم الوزارة ودكتاتورية رئيسها ودستوره وحزبه وبرلمانه المزيف.. ومر طه بمرحلة تحول فكري وروحي عميق وهادئ استقر في نهاية المطاف إلي كنف الوفد وجماهيره الواسعة( شغلت هذه المرحلة نحو ثلاث سنوات منذ فصله في نهاية مارس1932 وحتي عاد إلي الجامعة أستاذا بها في ديسمبر1934). لقد كان خلال هذه المرحلة قريبا من الجماهير ومنحازا لها بعد أن كان مجرد أستاذ وعالم جليل منذ العشرينيات. انتقل طه حسين بعد ذلك بعتاده الفكري والسياسي والاجتماعي من معسكر الصفوة المنعزلة عن الجماهير إلي معسكر الجماهير العريضة في حزب الوفد. ورغم انخراطه في كتابة المقال السياسي بشكل شبه يومي, لم يبتعد عن عالمه الأثير, عالم الأدب والفكر فأصدر كتب: في الصيف حافظ وشوقي وألف الجزء الأول من كتاب' علي هامش السيرة' بين عامي1932 و1933, ولم يكد يمر عام إلا ويصدر له كتاب جديد.. فضلا عن مقالاته الأدبية التي جمعت فيما بعد في عدة كتب.. لقد كان طه حسين يؤمن بأهمية الاستفادة مما عند الأوربيين من علم وحضارة, ويؤمن بالتنبه كذلك لعدم استغلال المصريين والحيلولة دون تقدمهم ونهضتهم بالاعتماد علي الأجانب في كل شيء..وظل يناقش خطورة سيطرة الأساتذة الأجانب علي الجامعة المصرية وعلي مجالسها, ويربط بين تمصير الجامعة واستقلال الوطن.. وأخيرا قدر لعميد الأدب العربي أن يعود لجامعته في أواخر عام1934 أستاذا, فعميدا لكلية الآداب مرة أخري, فمديرا للجامعة, ثم وزيرا للمعارف فيما بعد(19521950) واستطاع أن يحقق من خلالها الكثير مما طرحه في كتابه' مستقبل الثقافة في مصر' فكان يدعو لمجانية التعليم بجميع مراحله ورفع مستواه ونشر الثقافة من خلال إنشاء إدارات للترجمة وتطوير دور الآثار وتمصير مناصبها وتفعيل شئون المسرح والموسيقي والأوبرا.. ومرت مصر بتطورات سيئة خلال الأربعينيات, أزمات اقتصادية واجتماعية بسبب الحرب, وفشل حل القضية الوطنية, وموجة اغتيالات طالت شخصيات كبيرة علي رأسها النقراشي باشا رئيس الوزراء.. كل هذه التطورات السيئة جعلت طه يفكر في أن يهجر مصر ويقيم في فرنسا لكنه لم يفعل.. وخلال هذه الفترة كتب' المعذبون في الأرض' منحازا إلي الجماهير, وكتب جنة الشوك جنة الحيوان.. الخ. وقد رأي البعض أن هذه المؤلفات تدعو للثورة بشكل رمزي.. المهم أن طه حسين انتقل خلال الأربعينيات من الدعوة إلي تجديد الفكر إلي الدعوة إلي تجديد المجتمع نفسه وصار من قادة التغيير الاجتماعي.. وكان هو الذي أسس جامعة الاسكندرية(1942) وكان أول مدير لها.. وعندما تولي حزب الوفد السلطة عام1950 صار طه حسين وزيرا للمعارف فوضع عام1950 أسس جامعة عين شمس ونواة جامعة أسيوط.. واتخذت في عهده سلسلة من التشريعات ذات الطابع الديمقراطي والمنحازة إلي المعذبين في الأرض, أهمها تقرير مجانية التعليم الثانوي والفني وقد أراد للمجانية أن تمتد إلي الجامعة لكن الملك فاروق تدخل ومنع ذلك.. وفي عهد ثورة يوليو بارك الثورة ووصف الحركة المباركة بأنها ثورة ورحب بعزل الملك ودعا للنظام الجمهوري وحبذه, ودعا القيادة إلي الاصلاح الاجتماعي, ثم انضم إلي لجنة الخمسين لاعداد الدستور الذي صدر عام1954 ولم ينفذ, وقدر قادة الثورة مكانته الأدبية فلم يضعوه في معسكر' العهد البائد' فقد رأوه عقلا كبيرا ومفكرا عظيما, وعندما سقطت الأحزاب لم يسقط طه حسين الذي كان يتمتع باستقلال فكري هيأ له أن يشق طريقه في ظل التطورات الجديدة.. وفي هذه المرحلة أيضا دعا طه حسين رجال الثورة للتفاوض مع الإنجليز أو الجهاد ضدهم لإجلاء جيش الاحتلال عن القناة.. وعندما أصدرت قيادة الثورة صحيفة' الجمهورية' لتكون لسان حال لها, كان طه حسين من أبرز كتابها واختير ضمن هيئة رؤساء تحريرها(196460).. وعندما تفجرت أزمة مارس1954 حذر بأن ما مس بعض الناس من أخطار الثورة لا يزال يسيرا قابلا للتدارك, وأعرب عن أمله بأن تظل الثورة نقية مبرأة من كل إثم, ودعا القيادة إلي الرشد' فالثورة لاتستطيع أن تظل ثورة دائمة لأن الثورة تغيير واضطراب يخرج الشعوب من حياة إلي أخري, ولابد بعدها من استقرار تظهر فيه آثار الثورة ويجني فيه الشعب ثمراتها.. وعندما تعرض عبد الناصر لاعتداء من جماعة الاخوان المسلمين في أكتوبر1954 كتب طه حسين مقالات يهاجمهم ويتهمهم بأنهم لايفكرون فيما يقدمون عليه ولاما قد يورطون فيه وطنهم من الأهوال. وعندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي دافع عن حق مصر في تأميم القناة وأعاد وسام' جوقة الشرف' الذي منحته له فرنسا ردا علي هجومها علي السويس.. وكتب مهاجما سياسة الغرب الأوروبي والأمريكي, ليفضح أسلوب الاستعمار الجديد حين تشتري الولاياتالمتحدة شعوب الشرق الأوسط بالترغيب والترهيب, وأن هذه الدولة الكبري تعمد إلي شعب فقير ضعيف فلا تسحقه ولا تبيده وإنما تفرض عليه سلطانها فرضا ليكون لها عبدا مطيعا تسخره فيما تشاء وتستأثر دونه بما يملك من سعة وثراء, وتزعم أنها لاتريد استغلاله وإنما تريد أن تحرره وأن تمهد له إلي الرقي سبيلا.. وهذا فن جديد من فنون الاستعمار تخترعه الولاياتالمتحدة في هذه الأيام... ولعل ماقاله العميد من أكثر من نصف قرن(1957) ونبهنا إليه لايزال يمارس حتي الآن!!. تحية متجددة إلي روح المفكر والانسان وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, وإلي مصر التي أنجبته.. ودعوة مستمرة لإعادة قراءة ما تركه لنا من تراث عظيم في وطن جدير بكل تقدم ورقي. لمزيد من مقالات د.احمد زكريا الشلق