تملي الحياة العصرية الحديثة علي المعنيين بالدراسات الإسلامية والدعاة المتصدرين للقيادة الفكرية والروحية في العالم الإسلامي مسئولية أكبر مما أملته تغيرات الحياة في أي عصر سابق. فليس في وسع متابع للأوضاع العالمية أن يتجاهل اتجاه النوع الإنساني إلي الوحدة والاتصال الوثيق الذي لاتستطيع فيه جماعة إنسانية أن تنعزل عن الجماعات الأخري, ولا أن تدعي لنفسها منعة من التأثر بالتطورات الجارية في ميادين العلم والتطبيقات التكنولوجية, أو الجارية في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد ظهرت في حياتنا العصرية أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية وكلها جديدة علي شعوبنا, وكان الغرب هو منطلق هذه الأنظمة وبها تأثرت الشعوب الشرقية وأكثرها شعوب إسلامية وعلي الرغم من دعوات الحرية والديمقراطية أصبح الفرد أكثر اضطرارا إلي أن يخضع في معيشته للقواعد العامة التي تقتضيها الأنظمة السائدة,فهناك توازن تفرضه هذه الظروف العالمية علي الأفراد والمجتمعات. وأستطيع أن أقول بأنه علي الرغم من اختلاف ثقافات الشعوب وتنوعها تكونت أرض مشتركة من الفكر الإنساني تجمع هذه الشعوب المتباينة وتخلق فيما بينها اهتمامات وطموحات بها قدر كبير من التشابه وتؤدي الي تعاون ضروري وإن كان هذا التشابه بنسب متفاوتة وأحس الجنس الإنساني بأهمية هذا التعاون أكثر من أي وقت مضي تحقيقا لما سبق أن بينه القرآن الكريم بقوله تعالي:' يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي,وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا'. قد أصبح نظر الجنس الإنساني إلي العالم- والمسلمون طائفة كبري من هذا الجنس- وإدراكهم لمتغيراته مختلفين عن ذي قبل نتيجة للتطور الإعلامي المرئي والمقروء, ولموجات الهجرة المتزايدة من البلاد الأقل نموا وتطورا إلي البلاد المزدهرة التي قطعت أشواطا كبيرة في النمو والتطور, ونتيجة لتطور وسائل الحصول علي المعلومات وانتقال الأفكار في سرعة لا تقاس إليها قدرات الوسائل التقليدية أصبح الاحتكاك الحضاري أشد قوة وتأثيرا, وهذه المؤثرات السابقة تشمل المسلمين وغير المسلمين. أما التي تخص المسلمين فإنهم نظرا إلي ما تسرب لأنماط معيشتهم من تغيرات منذ مجيء الحملة الفرنسية إلي مصر وبعد عودة بعثات محمد علي من أوروبا وفي أثناء الحقبة الاستعمارية وبعدها, وما قدر لكثير من بلدانهم من مواجهة للغرب عسكرية وثقافية أو تعامل معه أو اتصال به وما كابدته الأوطان الإسلامية من تقلبات سياسية واجتماعية منذ أواخر القرن التاسع عشر وعلي امتداد القرن العشرين وما قطعناه من قرننا هذا كل ذلك جعلهم لايستطيعون الانفكاك عن التأثر بالمدنية الغربية الحديثة, وقد أصبحوا لا يكادون يلاحقون ما يتدفق علي حياتهم وهم في بلدانهم من منتجات هذه الحضارة المادية والمعنوية وكل ذلك تتبعه تطورات كبيرة في طرق المعيشة وأنظمة الحياة, فهي طرق وأنظمة لم تكن معهودة للأسلاف. وإذا كان الإسلام بطبيعته دعوة عالمية في الزمان والمكان يخاطب كل إنسان بدءا من زمن البعثة إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها, فإن البحث عن قابليته للتغيرات الإنسانية مع رسوخ ثوابته, تمليه الضرورة التي تحمل كل إنسان علي حفظ ذاته من الضياع, في مواجهة التغيرات التي تشبه التغيرات المناخية المفاجئة ويمليه الواجب الخلقي الاختياري الذي يشعر به المفكر المسلم تجاه الدعوة إلي دينه علي هدي وبصيرة, والهدي والبصيرة هي الخبرة بالواقع من ناحية والعلم العميق بكليات الدين وثوابته واتجاه نصوصه من ناحية ثانية والعلم بخصائص الحياة البشرية في طبائعها الفردية وبيئاتها المختلفة, وما يصلح لكل منها علي حدة وما لا يصلح من ناحية ثالثة. وهذه المسئولية تتمثل في السعي إلي تحقيق عدة أهداف: أولها: إعانة المسلم علي أن يشعر بالتوافق بين تدينه بالإسلام وبين واقعه الحيوي ومعطيات عصره. ثانيها: إعادة عرض الإسلام علي غير المسلمين ملاحظا العناصر المشتركة والعناصر المختلفة بين أبناء الإنسانية آخذا في اعتباره الخصائص التي تنفرد بها كل بيئة حضارية عن غيرها. ثالثها: مناقشة الظاهرة التي تلوح في كتابات غربية وهي عدم الممانعة في تقبل الإسلام عنصرا يدخل في عناصر الثقافة الغربية بشرط خضوعه واستئناسه ليوافق الحياة الغربية ونظامها الذي يشتمل علي الثقافات المتنوعة العديدة. رابعها: مناقشة المؤلفات التي أخذت تظهر بين المسلمين مرتدية رداء التجديد الديني وهي فيما أري تعمل علي إلغاء الدين من أساسه أو تحويله إلي أداة موظفة لخدمة اتجاهات مذهبية مجلوبة من الغرب أو الشرق بعد تأويل نصوصه تأويلا متطرفا بعيدا عن قواعد التأويل المنضبطة. خامسها: مقاومة المواقف المنغلقة التي ترفض الاعتراف بضرورة توافق المسلم مع الواقع المتغير واحتفاظه في الوقت نفسه بإيمانه المتبصر بنصوص الدين, وأصحاب هذه المواقف المنغلقة يوظفون الدين توظيفا يناقض ما ذهب إليه( المتغربون) الذين أشرنا إليهم في الهدف السابق فيجعلون من حرفية فهمهم للنص أداة لوأد كل تجديد تتطلبه الحياة ويتطرفون في ذلك إلي حد بعيد فهما طرفان متباينان وقد وصل الأمر بفئة من غلاة أصحاب هذه المواقف المنغلقة إلي حد استباحة العنف والتخريب وقتل نفوس الأبرياء تارة تحت شعار' الحاكمية لله' ووجوب مقاتلة الحكام الذين يوالون الكفار!! وتارة تحت شعار'إحياء الفريضة الغائبة' وتارة تحت حجة' الانتقام والثأر' من الغربيين لما يرتكبونه في بلاد المسلمين من بطش وعدوان, وذهب بعض آخرإلي الانعزال عن الحياة الاجتماعية تحت شعار'التكفير والهجرة' وهي مواقف متعددة يجمعها' رفض التجديد' ولكن بمقادير ونسب وتوجهات مختلفة. المهمة الكبري للمفكر الإسلامي إذن والتي تجمع هذه الأهداف هي إظهار ما في الإسلام من سماحة واتساع وبعد عن ضيق النظرة والتعصب للمواقف المذهبية في الحكم علي الوقائع والمشكلات من خلال سياقها الخارجي, ولابد أن يكون ناظرا إلي اتجاهات النصوص في مجموعها لتحقيق الخير العام دون التعصب لطائفة من النصوص من أجل نصرة مذهب علي آخر وتجاهل نصوص أخري تقيد المطلق وتفسره وتغير دلالته الظاهرة في بادي الرأي. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل