شأنهم شأن سكان قري عديدة في محافظات مصر لا يشعر بوجودهم أحد من المسئولين, ولا تنتقل إليهم وسائل إعلام إلا عندما يصرخون مستغيثين وهم يحاولون إنقاذ أبنائهم ومتاعهم وبهائمهم من طوفان مياه يداهمهم ليلا وهم نيام. يستيقظون وقد أصبح كل شيء حولهم إما هالكا أوعائما أوضائعا... وكلما أفاقوا من طوفان جلسوا يترقبون آخر متوقعا قدومه دائما في كل شتاء.. إنه حال سكان قري عديدة تقع علي بحيرة قارون يهددها دائما ارتفاع منسوب المياه بالغرق كما يهددها الجهل والفقر وشدة العوز والمرض. عندما ذهبنا إلي هناك لم نكن نتخيل أبدا أن مياه البحيرة الهادئة الممتدة علي مرمي البصر تخفي وراءها واقعا مؤلما لبسطاء يعترفون بأن أغلبهم يجهل القراءة والكتابة ولا تعنيه أمور السياسة ولا يشغله سوي سكن آمن ولقمة عيش قد تتوافر يوما وتغيب أياما. قري صالح شماطة والحبون وخلف وعبد العظيم هي أكثر القري تضررا من القصة الشهيرة المتكررة لطوفان مصرف البطس الذي تقع أسفله فلا يجد عندما تمتليء قناته بمياه الصرف الزراعي لمحافظة الفيوم سوي أن يتدفق بشراسة في اتجاه البيوت الحجرية البسيطة.. وكان آخر هجوم له ليلة عيد الأضحي, عاش الأهالي مشاهد لا ينسونها وهم يستيقظون علي المياه وقد حاصرتهم لدرجة أنهم اضطروا لاستخدام المراكب كوسيلة انتقال, خاصة أن المسئولين لم يستيقظوا إلا بعد يومين كما قال محمود سالم وهو شاب من قرية الحبون يعمل بالصيد: ظللنا يومين لم نر سوي قنوات فضائية وصحفيين بينما غاب المسئولون وعندما ظهروا قالوا لنا أنتم متعدون وهذه مساكن عشوائية, رغم أننا أظهرنا لهم ما يثبت ملكيتنا للأرض التي اشتريناها ومعنا عقود أملاك مسجلة بها وقد كانت الأرض رخيصة فأقبلنا عليها لنبني بيوتنا البسيطة ونربي الدجاج والمواشي التي نأكل منها ولم نكن نعلم بكارثة البطس الذي تفيض مياهه علينا كل عام في فصل الشتاء.. ولكن هذه المرة تعرضنا للغرق بسبب وجود تعديات علي فتحات المصرف بالإضافة للإهمال في تطهيره وتعميق مجراه فارتفعت المياه بشدة, والآن نحن نخشي عودة المياه مع قدوم الشتاء, رغم أننا سمعنا وعودا بحلول كثيرة إلا أننا لا نعلم إذا كانوا فعلوا شيئا لإنقاذنا أم أننا سنظل نعيش هذه الدوامة كل عام ؟ ليست المياه وحدها هي مشكلة هذه القري, فهناك التعليم الذي يعتبرونه ترفا لا يقدرون عليه, لذا سهل أن تلاحظ أن الأطفال منشغلون بالذهاب مع أمهاتهم للأسواق أو اللهو واللعب في مناطق البرك وتجمع المياه التي تتعفن وتنطلق منها رائحة كريهة تنفر الزائر بينما لا يشعر بها الطفل الذي يشمر بكل سعادة عن ساقيه, أو ربما اعتاد عليها كما اعتاد علي لسعات الناموس التي تترك آثارا ضارية علي الوجوه البريئة!! منال قالت لي وهي تحمل فوق رأسها قفة من الخوص تفوح منها رائحة السمك: قليل منا اللي بيعلم ولاده هنا ففي الجابون ماعندناش غير مدرسة واحدة ابتدائي وأهالي القرية ليس بينهم موظف الرجال أرزقية علي باب الله ويعملون صيادين يوم فيه وعشرة مافيش والستات إما بتبيع شوية بيض أو زبدة أو تنزل للمركز( سنورس) زي حالاتي تبيعلها سمكتين ويادوب ناكل احنا والعيال لكن ماعندناش فلوس نجيب كراريس واقلام وندفع مصاريف! لفتت نظرنا أسلاك كهرباء تمتد بين جذوع أشجار جرداء وتدخل إلي البيوت, وقبل أن أسأل قالت لي أم أحمد: دي أسلاك الكهربا اللي يادوب بتنور لنا لمبة أو لمبتين في بيوتنا وأحيانا تشغل تليفزيون لما التيار يبقي كويس في الشتا لكن طول الصيف مانعرفش حاجة اسمها مروحة ولا تلاجة, وعلي فكرة تكمل السيدة احنا مش سارقين تيار دول بيدفعونا كل تلات شهور مقايسة ورغم كده ماحدش جابلنا عمود كهربا بدل ماحنا رابطين الأسلاك في الشجرة وغلبنا نطلب ونقول ومافيش فايدة وأسهل حاجة عند المسئولين يفصلوا عنا الكهربا خالص لما القرية تغرق من المصرف زي ماحصل في العيد. التف أهالي كثيرون ولسان حالهم جملة واحدة: عاوزين نشوف مسئول يحللنا ولو جزء من مشاكلنا مش لازم نكون بنغرق علشان حد يسمع صوتنا إحنا عندنا معاناة شديدة في كل شيء حتي في الخدمات الصحية, القري دي منسية أرجوكم وصلوا صوتنا حاولت أن أرفع استغاثة الأهالي أولا للمسئول المباشر عنهم السيد رئيس مدينة سنورس ولكن بعد أن أخلف وعده بأنه سيسمع منا أوجاع هؤلاء ويرد عليها وتهرب من الرد علينا تأكدنا فعلا أن أهالي قري بحيرة قارون منسيون, فلعل سطورنا تكون نداء إلي مسئول آخريعرف أن مهمته الأولي أن ينزل للقري والنجوع ويتعرض لقرص الناموس و يغوص حذاؤه في الطين لا أن يجلس هانئا علي الكرسي ولا يبالي بمن يصرخون.