هنالك وصف بديع للجامعة, تمنيت أن أكون صاحبه, يعتبرها' جمهورية معرفة' ذات طابع ديمقراطي أصيل في استيعاب وإنتاج وتوظيف المعرفة مع الحرص علي أن يتم ذلك في تواصل مع مجتمعها, وتوافق مع المجتمع الإنساني كله في زمان العولمة. إن هذا المفهوم يستحق تفصيلا أكثر, وقد يتسع له المقام في مقال آخر, وإنه كنت قد تذكرته عندما تلقيت دعوة كريمة من' المجلس العربي للأخلاق والمواطنة' للحديث عن الجامعات العربية ومستقبلها. أنني أومن بأن الجامعة لا يمكن أن تكون' قاطرة' لتقدم مجتمعها, كما يقال عادة إلا إذا كانت' قادرة' علي التطوير من داخله, لا من خارجه, دون أن يعني ذلك الاستغناء عن الانفتاح علي العالم المتقدم واستيعاب خبراته المتراكمة. فالجامعة القادرة علي تطوير مجتمعها تستخلص الملامح الإيجابية وتواجه بشجاعة الملامح السلبية أينما وجدت, في مناخ من حرية التعبير والتفكير والإبداع اللازم في' جمهورية المعرفة' المذكورة وتمارس الانفتاح الكامل الذي يثري هويتها ولا يذيبها.. فلا مكان للذوبان أو العزلة. وباختصار' الجامعة العربية' يجب أن تكون عربية, وهي ليست كذلك, إلا إذا خدعنا في قشور المسميات وبعض المقررات. لذا أبدأ بالحديث عن الصورة الذهنية للجامعة عند المثقف العربي: الصورة التلقيدية: بين تغريبة الطهطاوي( الأصالة والمعاصرة) وتغريب طه حسين ورفاقه العظام( التنوير, البحر متوسطية, الجامعة الأهلية) التي أدت دورها, وأسست لما بعدها, فمن يذهب إلي الجامعة التي درس فيها العميد لن يجدها كما هي, ولن يجد السيدة سوزان في انتظاره!! الصورة الراهنة: تغريبه النموذج المرجعي للتقدم حيث المحاكاة الحرفية وتهميش السياق( علاج خاطئ للواقع المتخلف, ينطلق من الشعور بالدونية, وليس من الثقة بالإمكانية, فيلجأ إلي النقل دون أعمال العقل, واستجداء النماذج الأجنبية وغرسها في واقعنا) يحلم البعض' بالهرفدة'( نسبة إلي هارفارد) لا إلي التميز في سياق عربي, فيقع في خطأ النقل الكمي, وليس الكيفي, لعناصر التقدم. الاحتفاء بالشكل أكثر من المضمون, والانبهار بالوسائل علي حساب الغايات( هل نوظف كل ما هو جديد أم هو الذي يوظفنا؟). السعي إلي اعتراف الآخر بنا وفقا لمعاييره وأهدافه, وفتات أمواله في بعض الحالات وإهدار أموالنا في حالات أخري. إن' الوصفات الجاهزة' للجهات المانحة امتدت من الاقتصاد إلي التعليم, دون أن نقوم بما يلزم من التمحيص النقدي والتقييم. الصورة العميقة: من منا, وهو يستحضر صورة الجامعة يتذكر, بشكل عضوي, مكتبة الإسكندرية القديمة, التي يقدرها غيرنا أكثر منا, أو أزهرنا الشريف, هذا' الجامع الجامعة الذي قدم للعالم نظامي أستاذ الكرسي والساعات المعتمدة في صورتهما الأولي, ناهيك عن المراكز المعرفية الأخري في المشرق والمغرب العربيين؟ ونحن نسعي إلي تقدم جامعاتنا, علينا من باب' الكرامة الحضارية أن نتذكر أن' العلم كان يتحدث بالعربية' لمدة طويلة, لنعرف أن من واجبنا أن نعيد إلي جامعاتنا عافيتها العلمية والمعرفية. تغمرني الثقة بأن تفعيل هذه الصورة العميقة في ضمائرنا, ستسهم في إعادة اكتشافنا للذات والآخر, ولطريق' المستقبل العربي' إننا لا ندعو إلي' الماضوية' ولكن إلي بناء المستقبل علي أساس حضاري, ولنا في احترام الغرب لحضاراته السالفة القدوة والمثل. تعريب المفهوم قبل تعريب العلوم!!! يتبادر إلي الذهن إشكالية تعريب العلوم والمعارف. هل تقبلوا دعوتي الطموحة بتعريب المفهوم' مفهوم الجامعة؟. الجامعة مفهوم حضاري رائع, ظهرت تجلياته العديدة بأسلوب أسمية' التكيف الحضاري الزمكاني' الذي يأخذ في الاعتبار كل عناصر السياق: التاريخ والجغرافيا والثقافة, فقه الأولويات, أوجه القوة والضعف والفرص والمخاطر, المشترك الانساني... إلخ. لماذا نرضي أن يكون المفهوم عندنا بضاعة مستوردة بطريقة تسليم المفتاح؟ ولأن الحكمة ضالة المؤمن, فإنني أدعو إلي الأستفادة من مقوله الكوكبية/ المحلية والبعد الأقليمي الذي أضيف إليها, لنطور جامعاتنا علي أساس الحاجات المحلية والتحديات الإقليمية والمشترك الإنساني, وستمثل النتيجة إضافة حضارية لأمتنا وللإنسانية كلها, ولذا فإن جامعاتنا العربية مدعوة إلي مراجعة عضوية في ضوء' وحدة المعرفة' من المنطلقات الأتية: أن المعارف كلها ينتجها الإنسان من أجل الإنسانية. أن التقدم المعرفي أزال الحواجز بين التخصصات. أن ثورة الإتصالات والمعلومات قد وفرت الوسائل والأدوات للمشاركة في الاستيعاب والإضافة, دون الإكتفاء بالتلقي والخوف من الغزو الثقافي. أن' المعرفة قوة', ولا خير في من لم يضف وقد جرت جهود عديدة لتطوير الجامعات العربية, لكنني أظن أن فلسفة التطوير لم تكن عربية تماما, لقصور الإبداع, وليس فقط لقصور التمويل. ومع ذلك, علينا أن نقيم بموضوعية إيجابيات وسلبيات هذه الجهود, بدراسات جادة لقياس الأثر, واستخلاص الدروس المستفادة. ويبقي علي الجماعة العلمية العربية, وأعني بالعلم هنا معناه الواسع, أن تدرك أن التطوير عملية مستمرة, وعليها أن تزيد من ملامحه العربية, آخذين في الإعتبار ما ذكرناه عن ثلاثية: المحلي/ الإقليمي/ الإنساني, وأن تتلمس الطريق إلي المشاركة الإيجابية في الإضافة إلي المعرفة الإنسانية, دون الاكتفاء بالتلقي السلبي مدفوع الثمن ماديا وأدبيا, وذلك عبر الوسائل التالية: الانفتاح علي الخبرات العالمية ضمانا للجودة والتنافسية بما في ذلك إكتساب القدرة علي وضع الاستراتيجيات العلمية والتكنولوجية, من منطلق السياسة العليا وليس البرامج فقط وإلتقاء القمة والقاعدة في جهد التطوير, التي لا يمكن أن تأتي من أعلي فقط. زيادة الطلب علي خدمات هذه الجماعة المختلفة, دون استسهال اللجوء إلي الخبرة الأجنبية إلا للضرورة. التعامل الصحيح مع العقول المهاجرة, بناء عل ما نريده منهم, لا ما يعرضوه علينا, أو يمرروه عن طريق بعضنا. تشجيع كل أشكال التعاون العلمي العربي, في التدريب والبحث العلمي والمشروعات المشتركة وتطوير المناهج والدراسات العليا والتنوير الثقافي.. إلخ؟!!!. لقد عشنا زمنا ندرس إمكانيات' الوحدة العربية' السياسية والاقتصادية والرفاعية الخ, حتي تصورت أن دراساتها يمكن أن تشكل علما اسميته' الوحدلوجيا' وإذا كان زمان هذا الحلم قد مضي, فإن الثقافة تبقي حاضرة, ويجب أن تنعكس في مؤسساتنا التعليمية كلها, وعلي قمتها الجامعة. لمزيد من مقالات د.احمد شوقى